الجاهلين، قال ابن جريج وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " ففررت منكم لما خفتكم " الآية أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت وإن خالفته عطبت، ثم قال موسى " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
قال فرعون وما رب العلمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال لمن حوله ألا تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب الشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28) يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله " وما رب العالمين " وذلك أنه كان يقول لقومه " ما علمت لكم من إله غيري " " فاستخف قومه فأطاعوه " وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى إني رسول رب العالمين قال له فرعون ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف حتى قال السدي هذه الآية كقوله تعالى " قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين " قال رب السماوات والأرض وما بينهما " أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه لا شريك له هو الله الذي خلق الأشياء كلها العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات ونبات وثمار وما بين ذلك من الهواء والطير، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون " إن كنتم موقنين " أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله " ألا تستمعون " أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلها غيري؟ فقال لهم موسى " ربكم ورب آبائكم الأولين " أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذي كانوا قبل فرعون وزمانه " قال " أي فرعون لقومه " إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري " قال " أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أو عز من الشبهة فأجاب موسى بقوله " رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " أي هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب ثوابتها وسياراتها مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا فليعكس الامر وليجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا، كما قال تعالى عن " الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب " الآية. ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، وأعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام فقال ما أخبر الله تعالى عنه: قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أو لو جئتك بشئ مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصدقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33)