بقوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى " يعني يوم القيامة. قاله مجاهد والضحاك وغيرهما، ولا منافاة بين هذا وما تقدم فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران فلا بشرى يومئذ للمجرمين " ويقولون حجرا محجورا " أي وتقول الملائكة للكافرين حرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك، ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه وإنما يطاف من ورائه ومنه يقال للعقل حجر لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق والغرض أن الضمير في قوله: " ويقولون " عائد على الملائكة هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا موسى يعني ابن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الآية " ويقولون حجرا محجورا " قال حراما محرما أن يبشر بما يبشر به المتقون، وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين " يوم يرون الملائكة " أي يتعوذون من الملائكة، وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول " حجرا محجورا " وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه، ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله: " حجرا محجورا " أي عوذا معاذا فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال " حجرا محجورا " عوذا معاذا الملائكة تقول ذلك فالله أعلم. وقوله تعالى:
" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل " الآية هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شئ، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الاخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ ولهذا قال تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال مجاهد والثوري " وقدمنا " أي عمدنا وكذا قال السدي وبعضهم يقول أتينا عليه. وقوله تعالى: " فجعلناه هباء منثورا " قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله: " هباء منثورا " قال شعاع الشمس إذا دخل الكوة، وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي، وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم، وكذا قال الحسن البصري هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " هباء منثورا " قال هو الماء المهراق، وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي " هباء منثورا " قال الهباء وهج الدواب، وروي مثله عن ابن عباس أيضا والضحاك وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال قتادة في قوله: " هباء منثورا " قال أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق، وقال عبد الله بن وهب أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح، وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شئ، فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا إذا إنها لا شئ بالكلية، وشبهت في ذلك بالشئ التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شئ بالكلية كما قال تعالى: " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح " الآية وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى - إلى قوله تعالى - لا يقدرون على شئ مما كسبوا " تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى - إلى قوله تعالى - لا يقدرون على شئ مما كسبوا " وقال تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " وتقدم الكلام على تفسير ذلك ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " أي يوم القيامة " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون " وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات