خالفت الأخرى مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ومرة من مكة إلى السماء فقط ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشئ يخلص به من الاشكالات وهذا بعيد جدا ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لاخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته ولنقله الناس على التعدد والتكرر. قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان الاسراء قبل الهجرة بسنة وكذا قال عروة وقال السدي بستة عشر شهرا والحق أنه عليه السلام أسرى به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق. فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السماوات السبع فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة ثم جاوز منزلتيهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القد ر بما هو كائن ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق. ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة.
ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم، جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم وهذا هو اللائق لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون ههنا وههنا لأنه كالضيافة للقادم والله أعلم ثم اختلف الناس هل كان الاسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط على قولين فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منام ثم رآه بعده يقظة لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل على هذا قوله تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شئ ولم يكن مستعظما ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال " أسرى بعبده ليلا " قال تعالى " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " قال ابن عباس هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم. رواه البخاري وقال تعالى " ما زاغ البصر وما طغى " والبصر من آلات الذات لا الروح وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم. وقال آخرون بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله