فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح. وثانيها: لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها، ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز، فأشار بقوله: * (إن ربي بكيدهن عليم) * إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة. وثالثها: أنه استخرج منهن وجوها من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك، ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك، أمر الملك بإحضارهن وقال لهن: * (ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) * وفيه وجهان: الأول: أن قوله: * (إذ راودتن يوسف عن نفسه) * وإن كانت صيغة الجمع، فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) * (آل عمران: 173) والثاني: أن المراد منه خطاب الجماعة. ثم ههنا وجهان: الأول: أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها. والثاني: أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه، وعند هذا السؤال * (قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء) * وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن: * (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) *.
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت: * (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن يوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهرا عن جميع العيوب، وههنا دقيقة، وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال: * (ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) * فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة البتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيما لجانبها وإخفاء للأمر عليها، فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل، ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر، فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة، فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك، فإني مقر بصدقها في دعواها، فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: * (حصحص الحق) * معناه: وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم: حصحص البعير في بروكه، إذا تمكن واستقر في الأرض. قال الزجاج: اشتقاقه في اللغة من الحصة، أي بانت حصة الحق من حصة الباطل.