المسألة الثانية: قال ابن عباس: نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به.
واعلم أن السبب وإن كان خاصا إلا أن الحكم عام، فقوله: * (أنفقوا طوعا أو كرها) * وإن كان لفظه لفظ أمر، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى: سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم.
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر. أما إقامة الأمر مقام الخبر، فكما ههنا، وكما في قوله: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) * (التوبة: 80) وفي قوله: * (قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) * (مريم: 75) وأما إقامة الخبر مقام الأمر، فكقوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن) * (البقرة: 233)) * المطلقات يتربصن بأنفسهن) * (البقرة: 288) وقال كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة * لدينا ولا مقلية إن تقلت وقوله: * (طوعا أو كرها) * يريد طائعين أو كارهين. وفيه وجهان: الأول: طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله، وسمى الإلزام إكراها لأنهم منافقون، فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه، والثاني: أن يكون التقدير: طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم.
ثم قال تعالى: * (لن يتقبل منكم) * يحتمل أن يكون المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله.
ثم قال تعالى: * (إنكم كنتم قوما فاسقين) * وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين. قال الجبائي: دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات، لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة، وعلل ذلك بكونهم فاسقين، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى، ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالا.
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه، وهو قوله: * (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) * فبين تعالى