فإذا قالوا: إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله: * (لا تخف) * ليفيد الأمن، وفراغ القلب.
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك.
فإن قالوا: أليس إنه تعالى قال: * (والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) فكيف خاف مع سماع هذه الآية؟ فنقول: هذه الآية إنما نزلت في المدينة، وهذه الواقعة سابقة على نزولها، وأيضا فهب أنه كان آمنا على عدم القتل، ولكنه ما كان آمنا من الضرب، والجرح والإيلام الشديد. والعجب منهم، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفا، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء، ولما خاف وبكى قالوا: هذا السؤال الركيك، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق، وإنما مقصودهم محض الطعن!
والجواب عن الثاني: أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية، فإن أبا بكر لو كان قاصدا له، لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك.
والجواب عن الثالث من وجوه: الأول: أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضرا في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلي كان غائبا، والحاضر أعلى حالا من الغائب. الثاني: أن عليا ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة، أما بعدها لما عرفوا أن محمدا غاب تركوه، ولم يتعرضوا له. أما أبو بكر، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة، فكان بلاؤه أشد. الثالث: أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهورا فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه، وشاهدوا منه أنه دعا جمعا من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة، ولا جهاد بالسيف والسنان، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي، ولهذا السبب، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي