هذا التأخير وجها آخر فقالوا: إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئا لنهلكن، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم. قال الواحدي: وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد، بل كان ذلك حاصلا في كل الشهور، وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه. واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر، فقال عليه السلام: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض السنة إثنا عشر شرا " وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (زيادة في الكفر) * معناه: أنه تعالى حكى عنهم أنواعا كثيرة من الكفر، فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر. كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفا من الكفر زيادة في الكفر. احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول: الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار، قال: لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماما، فكان ترك هذا التأخير إيمانا، وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار. فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيمانا قال المصنف رضي الله عنه: هذا الاستدلال ضعيف، لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلا من الأشهر القمرية، فإذا اعتبرنا السنة الشمسية، فربما وقع الحج في المحرم مرة وفي صفر أخرى. فقولهم: بأن هذا الحج صحيح يجزى، وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فكان هذا كفرا بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار.
أما قوله تعالى: * (يضل به الذين كفروا) * فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم، وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضا، لأن المضل لغيره ضال في نفسه لا محال. وقراءة أهل الكوفة * (يضل) * بضم الياء وفتح الضاد، ومعناه: أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور، فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية: * (زين لهم سوء أعمالهم) * أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه. وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم * (يضل به الذين كفروا) * بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه: