الذي يوجب المغفرة، فهذا هو الاستغفار، فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصرا على الكفر ترك تلك الدعوة.
والوجه الثاني: في الجواب أن من الناس من حمل قوله: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * (التوبة: 113) على صلاة الجنازة، وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب. قالوا: والدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين، وهو قوله: * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) * (التوبة: 84) وفي هذه الآية عم هذا الحكم، ومنه من الصلاة على المشركين، سواء كان منافقا أو كان مظهرا لذلك الشرك وهذا قول غريب.
المسألة الثالثة: اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله. فقال بعضهم: بالإصرار والموت. وقال بعضهم: بالإصرار وحده. وقال آخرون: لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي، وعند ذلك تبرأ منه. فكان تعالى يقول: لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه، فكونوا كذلك، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: * (واتبع ملة إبراهيم) * (النساء: 125).
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة. قال: * (إن إبراهيم لأواه حليم) * (التوبة: 114) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه، والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه، فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ، وللمفسرين فيه عبارات، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الأواه: الخاشع المتضرع " وعن عمر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأواه، فقال: " الدعاء " ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه، فأنكر عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: " دعها فإنها أواهة " قيل يا رسول الله وما الأواهة؟ قال: " الداعية الخاشعة المتضرعة " وقيل: معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها، كلما ذكر لنفسه تقصيرا أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقا من ذلك واستعظاما له. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الأواه، المؤمن بالخشية. وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم. واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام، لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل، ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده، فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه، لما ظهر له إصراره على الكفر، فأنتم بهذا المعنى أولى، وكذلك وصفه أيضا بأنه حليم، لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب، وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب.