المسألة الخامسة: القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة. وقال القاضي: كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم، وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي. وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم.
المسألة السادسة: أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون ربا له وخالقا له. ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين: أحدهما: أن الأفول ما هو؟ والثاني: أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب؟ فنقول: الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره.
وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل، فيقول: الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير، فيكون الطلوع أيضا دليلا على الحدوث، فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول؟
والجواب: لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهرا جليا بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل. ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق. أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم. وأيضا قال بعض المحققين: الهوى في خطرة الإمكان أفول، وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان، وكل ممكن محتاج، والمحتاج: لا يكون مقطوع الحاجة، فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال: * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث، وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر. فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية، فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله: * (لا أحب الآفلين) * كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين.