أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها.
إذا عرفت هذين القولين: فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى، لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها، فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين: الأول: أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى، والثاني: أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز، وإنما وصف بذلك لأنه تعالى ذو السلام، فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى.
النوع الثاني: من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله: * (عند ربهم) * وفي تفسيره وجوه:
الوجه الأول: المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة، ونظيره قوله تعالى: * (جزاؤهم عند ربهم) * وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها، وكونهم على ثقة من ذلك.
الوجه الثاني: وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله: * (عند ربهم) * يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى، وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة، وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) * (السجدة: 17).
الوجه الثالث: أنه قال في صفة الملائكة: * (ومن عنده لا يستكبرون) * وقال في صفة المؤمنين في الدنيا - أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي - وقال أيضا - أنا عند ظن عبدي بي - وقال في صفتهم يوم القيامة: * (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) وقال في دارهم: * (لهم دار السلام عند ربهم) * وقال في ثوابهم: * (جزاؤهم عند ربهم) * (البينة: 8) وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية.
النوع الثالث: من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله: * (وهو وليهم) * والولي معناه القريب، فقوله: * (عند ربهم) * يدل على قربهم من الله تعالى، وقوله: * (وهو وليهم) * يدل على قرب الله منهم، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، وأيضا فقوله: * (وهو وليهم) * يفيد الحصر، أي لا ولي لهم إلا هو، وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو، وأن النافع والضار ليس إلا هو، وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو، وأنه لا مبدئ للكائنات والممكنات إلا هو، فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه، فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، وما كان أنسهم إلا به،