تركه، وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى، وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل.
إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة، وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب، وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله، وهذا هو انشراح الصدر للإيمان. فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان بمحمد مثلا سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا، ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام، وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقا حرجا، فصار تقدير الآية: أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان، ومن أراد الله منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان، وقوى دواعيه إلى الكفر. ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك، ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية، وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظ القرآن، فليس وراءه بيان ولا برهان. قالت المعتزلة: لنا في هذه الآية مقامان:
المقام الأول: بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم.
المقام الثاني: مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا.
أما المقام الأول: فتقريره من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوما أو يضلهم، لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنسانا فعل به كيت وكيت، وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت، وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده. والدليل عليه أنه تعالى قال: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين) * (الأنبياء: 17) فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده، ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله.
الوجه الثاني: أنه تعالى لم يقل: ومن يرد أن يضله عن الإسلام، بل قال: * (ومن يرد أن يضله) * فلم قلتم أن المراد؟ ومن يرد أن يضله عن الإيمان.
والوجه الثالث: أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره، وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء، فقال: * (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) * (الأنعام: 125).
الوجه الرابع: أن قوله: * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقا حرجا يتقدم حصوله على حصول الضلالة، وأن لحصول ذلك المتقدم أثرا في حصول