والقول الثاني: أن قوله تعالى: * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) * هو كلام الإنس خاصة، لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر. أما استمتاع بعض الإنس ببعض، فهو أمر ظاهر. فوجب حمل الكلام عليه، وأيضا قوله تعالى: * (وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض) * كلام الإنس الذين هم أولياء الجن، فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: * (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) * فالمعنى: أن ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى أجل معين ووقت محدود، ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع، واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات؟ فقال بعضهم: هو وقت الموت. وقال آخرون: هو وقت التخلية والتمكين. وقال قوم: المراد وقت المحاسبة في القيامة، والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله، لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، وفيهم المقتول وغير المقتول.
ثم قال تعالى: * (قال النار مثواكم) * المثوى: المقام والمقر والمصير، ثم لا يبعد أن يكون للإنسان مقام ومقر ثم يموت ويتخلص بالموت عن ذلك المثوى، فبين تعالى أن ذلك المقام والمثوى مخلد مؤبد وهو قوله: * (خالدين فيها) *.
ثم قال تعالى: * (إلا ما شاء الله) * وفيه وجوه: الأول: أن المراد منه استثناء أوقات المحاسبة، لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار: الثاني: المراد، الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. وروي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر الجحيم. الثالث: قال ابن عباس: استثنى الله تعالى قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا القول يجب أن تكون " ما " بمعنى " من " قال الزجاج: والقول الأول أولى. لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة، لأن قوله: * (ويوم يحشرهم جميعا) * هو يوم القيامة.
ثم قال تعالى: * (خالدين فيها) * منذ يبعثون * (إلا ما شاء الله) * من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. الرابع: قال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود، وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم، فكأنهم قالوا: وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا، أي الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى. كقوله تعالى: * (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * (الأنعام: 6) وكما فعل في قوم نوح وعاد وثمود ممن أهلكه الله تعالى قبل الأجل الذي لو آمنوا، لبقوا إلى الوصول إليه فتلخيص الكلام