المسألة الثالثة: في الآية محذوف والتقدير: يوم نحشرهم جميعا فنقول: يا معشر الجن، فيكون هذا القائل هو الله تعالى، كما أنه الحاشر لجميعهم، وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتا وبيانا لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم. وقال الزجاج: التقدير فيقال لهم يا معشر الجن، لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار، بدليل قوله تعالى في صفة الكفار: * (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) * (البقرة: 174). أما قوله تعالى: * (قد استكثرتم من الإنس) * فنقول: هذا لا بد فيه من التأويل. لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى، فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول.
أما قوله: * (وقال أولياؤهم من الأنس) * فالأقرب أن فيه حذفا، فكما قال للجن تبكيتا، فكذلك قال للإنس توبيخا. لأنه حصل من الجن الدعاء، ومن الإنس القبول، والمشاركة حاصلة بين الفريقين، فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس، وهو قولهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا، والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم. ثم ههنا قولان: الأول: أن قولهم استمتع بعضنا ببعض، المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن، وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان:
القول الأول: أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت آمنا في نفسه، فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني، كان ذلك تعظيما منهم للجن، وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس، لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه، وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى: * (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) * (الجن: 6).
والوجه الثاني: في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء، والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم، فهذا استمتاع الجن بالإنس. وأما استمتاع الإنس بالجن، فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم، وهذا القول اختيار الزجاج. قال: وهذا أولى من الوجه المتقدم، والدليل عليه قوله تعالى: * (قد استكثرتم من الإنس) * ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي، قليل.