واعلم أن قوله: * (وربك الغني ذو الرحمة) * يفيد الحصر، فإن معناه: أنه لا رحمة إلا منه، والأمر كذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والواجب لذاته واحد فكل ما سواه فهو منه، والرحمة داخلة فيما سواه. فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق، فثبت بهذا البرهان صحة هذا الحصر فثبت أنه لا غني إلا هو. فثبت أنه لا رحيم إلا هو.
فإن قال قائل: فكيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الولد والمولى على عبده، وكذلك سائر أنواع الرحمة؟
فالجواب: أن كلها عند التحقيق من الله. ويدل عليه وجوه: الأول: لولا أنه تعالى ألقى في قلب هذا الرحيم داعية الرحمة، لما أقدم على الرحمة، فلما كان موجد تلك الداعية هو الله، كان الرحيم هو الله. ألا ترى أن الإنسان قد يكون شديد الغضب على إنسان قاسي القلب عليه، ثم ينقلب رؤوفا رحيما عطوفا فانقلابه من الحالة الأولى إلى الثانية ليس إلا بانقلاب تلك الدواعي. فثبت أن مقلب القلوب هو الله تعالى بالبرهان قطعا للتسلسل، وبالقرآن وهو قوله: * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * (الأنعام: 110) فثبت أنه لا رحمة إلا من الله. والثاني: هب أن ذلك الرحيم أعطى الطعام والثوب والذهب، ولكن لا صحة للمزاج والتمكن من الانتفاع بتلك الأشياء، وإلا فكيف الانتفاع؟ فالذي أعطى صحة المزاج والقدرة والمكنة هو الرحيم في الحقيقة. والثالث: أن كل من أعطى غيره شيئا فهو إنما يعطي لطلب عوض، وهو إما الثناء في الدنيا، أو الثواب في الآخرة، أو دفع الرقة الجنسية عن القلب، وهو تعالى يعطي لا لغرض أصلا، فكان تعالى هو الرحيم الكريم. فثبت بهذه البراهين اليقينية القطعية صحة قوله سبحانه وتعالى: * (وربك الغني ذو الرحمة) * بمعنى أنه لا غني ولا رحيم إلا هو. فإذا ثبت أنه غني عن الكل. ثبت أنه لا يستكمل بطاعات المطيعين ولا ينتقص بمعاصي المذنبين. وإذا ثبت أنه ذو الرحمة؛ ثبت أنه ما رتب العذاب على الذنوب، ولا الثواب على الطاعات، إلا لأجل الرحمة والفضل والكرم والجود والإحسان، كما قال في آية أخرى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) فهذا البيان الإجمالي كاف في هذا الباب. وأما تفصيل تلك الحالة وشرحها على البيان التام، فمما لا يليق بهذا الموضع.
المسألة الثانية: أما المعتزلة فقالوا: هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلا منزها عن فعل القبيح، وعلى كونه رحيما محسنا بعباده. أما المطلوب الأول فقال: تقريره أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيا عنه، وكل من كان كذلك فإنه يتعالى عن فعل القبيح.
أما المقدمة الأولى، فتقريرها إنما يتم بمجموع مقدمات ثلاثة. أولها: أن في الحوادث