والحاصل: أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها، ولا طريق له البتة إلى الخلاص عن هذه العهدة، فهذا هو الخصومة. أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى. وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى، فهذا لا يكون خصما.
والوجه الثالث: في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوما من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس، وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض الجوانب مختفيا عن الجبائي، وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد، والثاني كان في غاية الكفر والفسق، والثالث كان صبيا لم يبلغ، فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي: أما الزاهد، ففي درجات الجنة، وأما الكافر، ففي دركات النار، وأما الصبي، فمن أهل السلامة. قال قولي له: لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه. فقال الجبائي: لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل. وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي، لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين. فقال الجبائي: يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار، فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب، فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار، فقال: يا رب العالمين، ويا أحكم الحاكمين، ويا أرحم الراحمين، كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك، فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي؟ قال الراوي: فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي. فلما نظر رأى أبا الحسن، فعلم أن هذه المسألة منه، لا من العجوز، ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال، فقال: نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم، بل لنا ههنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم، ثم قال: وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: التكليف محض التفضل والإحسان، وهو غير واجب على الله تعالى. وقال البغداديون: إنه واجب