والحجة الثانية: أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل والله تعالى ليس كذلك، فوجب أن تمتنع رؤيته.
والحجة الثالثة: قال القاضي: ويقال لهم كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار؟ إما أن يقرب منهم أو يقابلهم فيكون حالهم معه بخلاف أهل النار وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب.
والحجة الرابعة: قال القاضي: إن قلتم إن أهل الجنة يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره فهو باطل، أو يرونه في حال دون حال وهذا أيضا باطل، لأن ذلك يوجب أنه تعالى مرة يقرب وأخرى يبعد. وأيضا فرؤيته أعظم اللذات، وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين لتلك الرؤية أبدا. فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغم والحزن وذلك لا يليق بصفات أهل الجنة. فهذا مجموع ما ذكره في " كتاب التفسير ". واعلم أن هذه الوجوه في غاية الضعف.
أما الوجه الأول: فيقال له هب أن رؤية الأجسام والأعراض عند حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط واجبة، فلم قلتم إنه يلزم منه أن يكون رؤية الله تعالى عند سلامة الحاسة وعند كون المرئي بحيث يصح رؤيته واجبة؟ ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب من هؤلاء المعتزلة أن أولهم وآخرهم عولوا على هذا الدليل وهم يدعون الفطنة التامة والكياسة الشديدة ولم يتنبه أحد منهم لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام.
وأما الوجه الثاني: فيقال له إن النزاع بيننا وبينك وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا؟ فإما أن تدعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي أو تقولوا أنه علم استدلالي، والأول باطل لأنه لو كان العلم به بديهيا لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء. وأيضا فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهيا كان الاشتغال بذكر الدليل عبثا فاتركوا الاستدلال واكتفوا بادعاء البديهة. وإن كان الثاني فنقول: قولكم المرئي يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل إعادة لعين الدعوى، لأن حاصل الكلام أنكم قلتم: الدليل على أن ما لا يكون مقابلا ولا في حكم المقابل لا تجوز رؤيته، أن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل، ومعلوم أنه لا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدعوى.
وأما الوجه الثالث: فيقال له لم لا يجوز أن يقال إن أهل الجنة يرونه وأهل النار لا يرونه؟ لا لأجل القرب والبعد كما ذكرت، بل لأنه تعالى يخلق الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها