المسألة الرابعة: قال الجبائي: دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعدا عن الحق ونفورا. إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به، وكان لا ينهى عما ذكرنا، وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء. كقوله لموسى وهارون: * (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وذلك يبين بطلان مذهب المجبرة.
المسألة الخامسة: قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر، وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين، لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب، لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها، فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها. وأما قوله تعالى: * (كذلك زينا لكل أمة عملهم) * فاحتج أصحابنا بهذا على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر، وللمؤمن الإيمان، وللعاصي المعصية، وللمطيع الطاعة. قال الكعبي: حمل الآية على هذا المعنى محال، لأنه تعالى هو الذي يقول: * (الشيطان سول لهم) * (محمد: 25) ويقول: * (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * (البقرة: 257) ثم إن القوم ذكروا في الجواب وجوها: الأول: قال الجبائي:
المراد زينا لكل أمة تقدمت ما أمرناهم به من قبول الحق والكعبي أيضا ذكر عين هذا الجواب فقال: المراد أنه تعالى زين لهم ما ينبغي أن يعملوا وهم لا ينتهون. الثاني: قال آخرون: المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم، أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم. والثالث: أمهلنا الشيطان حتى زين لهم، والرابع: زيناه في زعمهم وقولهم: إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا. هذا مجموع التأويلات المذكورة في هذه الآية والكل ضعيف وذلك لأن الدليل العقلي القاطع دل على صحة ما أشعر به ظاهر هذا النص، وذلك لأنا بينا غير مرة أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على حصول الداعي. وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى، ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد، ومصلحة راجحة، وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى، وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقدا لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد، والمصلحة الراجحة.
ثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل، ولا قول ولا حركة ولا سكون، إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده، وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا، والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيمانا وعلما وصدقا وحقا فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل. الثاني: ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك