طرق المعرفة هو الرؤية. فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد، وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * (فصلت: 31).
الحجة العاشرة: قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا) * (الكهف: 107) دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل جميع جنات الفردوس نزلا للمؤمنين، والاقتصار فيها على النزل لا يجوز، بل لا بد وأن يحصل عقيب النزل تشريف أعظم حالا من ذلك النزل، وما ذاك إلا الرؤية.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 22، 23) وتقرير كل واحد من هذه الوجوه سيأتي في الموضع اللائق به من هذا الكتاب. وأما الأخبار فكثيرة منها الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام: " سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته " واعلم أن التشبيه وقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي، ومنها ما اتفق الجمهور عليه من أنه صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس: 26) فقال الحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله، ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل رأى الله ليلة المعراج، ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب؟ وما نسبه إلى البدعة والضلالة، وذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلا في رؤية الله تعالى، فهذا جملة الكلام في سمعيات مسألة الرؤية.
المسألة الخامسة: دل قوله تعالى: * (وهو يدرك الأبصار) * على أنه تعالى يرى الأشياء ويبصرها ويدركها. وذلك لأنه إما أن يكون المراد من الأبصار عين الأبصار. أو المراد منه المبصرين، فإن كان الأول وجب الحكم بكونه تعالى رائيا لرؤية الرائين ولأبصار المبصرين، وكل من قال ذلك قال إنه تعالى يرى جميع المرئيات والمبصرات. وإن كان الثاني وجب الحكم بكونه تعالى رائيا للمبصرين، فعلى كلا التقديرين تدل هذه الآية على كونه تعالى مبصرا للمبصرات رائيا للمرئيات.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (وهو يدرك الأبصار) * يفيد الحصر معناه أنه تعالى هو يدرك الأبصار ولا يدركها غير الله تعالى، والمعنى أن الأمر الذي به يصير الحي رائيا للمرئيات ومبصرا للمبصرات ومدركا للمدركات، أمر عجيب وماهية شريفة، لا يحيط العقل بكنهها. ومع ذلك فإن الله تعالى مدرك لحقيقتها مطلع على ماهيتها، فيكون المعنى من قوله: * (لا تدركه الأبصار) * هو أن شيئا من القوى المدركة لا تحيط بحقيقته، وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته، فكلت الأبصار عن إدراكه، وارتدعت العقول عن الوصول إلى ميادين عزته،