التقديرين: فيلزم كونه تعالى مبصرا لأبصار نفسه، وكونه مبصرا لذات نفسه. وإذا ثبت هذا وجب أن يراه المؤمنون يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
الوجه الثالث: في الاستدلال بالآية أن لفظ * (الأبصار) * صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق فقوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد أنه لا يراه جميع الأبصار، فهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب.
إذا عرفت هذا فنقول: تخصيص هذا السلب بالمجموع يدل على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع، ألا ترى أن الرجل إذا قال إن زيدا ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم.
فإذا قيل: إن محمدا صلى الله عليه وسلم ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس، وكذا قوله: * (لا تدركه الأبصار) * معناه: أنه لا تدركه جميع الأبصار، فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار. أقصى ما في الباب أن يقال: هذا تمسك بدليل الخطاب. فنقول: هب أنه كذلك إلا أنه دليل صحيح لأن بتقدير أن لا يحصل الإدراك لأحد البتة كان تخصيص هذا السلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثا، وصون كلام الله تعالى عن العبث واجب.
الوجه الرابع: في التمسك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول: إن الله تعالى لا يرى بالعين، وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة، واحتج عليه بهذه الآية فقال: دلت هذه الآية على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر، وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه، فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزا في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ثبت أن يقال: إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه، فهذه وجوه أربعة مستنبطة من هذه الآية يمكن العويل عليها في إثبات أن المؤمنين يرون الله في القيامة.
المسألة الثانية: في حكاية استدلال المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية.
اعلم أنهم يحتجون بهذه الآية من وجهين: الأول: أنهم قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية، بدليل أن قائلا لو قال أدركته ببصري وما رأيته، أو قال رأيته وما أدركته ببصري فإنه يكون كلامه متناقضا، فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال، والدليل على صحة هذا العموم وجهان: الأول: يصح استثناء جميع الأشخاص وجميع الأحوال عنه فيقال: لا تدركه الأبصار إلا بصر فلان، وإلا في الحالة الفلانية والاستثناء