نوعي الرؤية، ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس. فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عن الله تعالى، فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم.
فإن قالوا لما بينتم أن الإدراك أمر مغاير للرؤية فقد أفسدتم على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تمسكتم بها في هذه الآية في إثبات الرؤية على الله تعالى.
قلنا: هذا بعيد لأن الإدراك أخص من الرؤية وإثبات الأخص يوجب إثبات الأعم. وأما نفي الأخص لا يوجب نفي الأعم. فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامكم ولا يبطل كلامنا.
الوجه الثاني: في الاعتراض أن نقول: هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية، لكن لم قلتم أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص وعن كل الأحوال وفي كل الأوقات؟ وأما الاستدلال بصحة الاستثناء على عموم النفي فمعارض بصحة الاستثناء عن جمع القلة مع أنها لا تفيد عموم النفي بل نسلم أنه يفيد العموم إلا أن نفي العموم غير، وعموم النفي غير، وقد دللنا على أن هذا اللفظ لا يفيد إلا نفي العموم، وبينا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص، وهذا هو الذي قررناه في وجه الاستدلال. وأما قوله إن عائشة رضي الله عنها تمسكت بهذه الآية في نفي الرؤية فنقول: معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة، فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد، وبالجملة فالدليل العقلي دل على أن قوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد نفي العموم. وثبت بصريح العقل أن نفي العموم مغاير لعموم النفي ومقصودهم إنما يتم لو دلت الآية على عموم النفي، فسقط كلامهم.
الوجه الثالث: أن نقول صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا، وإذا كان كذلك فقوله: * (لا تدركه الأبصار) * يفيد أن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه، ونحن نقول بموجبه فإن هذه الأبصار وهذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها فلم قلتم أن عند حصول هذه التغيرات لا تدرك الله؟
الوجه الرابع: سلمنا أن الأبصار البتة لا تدرك الله تعالى فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما كان ضرار بن عمرو يقول به؟ وعلى هذا التقدير فلا يبقى في التمسك بهذه الآية فائدة.
الوجه الخامس: هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات رؤية الله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام، وحينئذ ينتقل الكلام من هذا المقام إلى بيان أن تلك الآيات هل