على ذكر مجئ البأس، وفي ذكر مجئ البأس الدلالة على ذكر الاهلاك. وإذا كان ذلك كذلك، كان سواء عند العرب بدئ بالاهلاك ثم عطف عليه بالبأس، أو بدئ بالبأس ثم عطف عليه بالاهلاك، وذلك كقولهم: زرتني فأكرمتني إذ كانت الزيارة هي الكرامة، فسواء عندهم قدم الزيارة وأخر الكرامة، أو قدم الكرامة وأخر الزيارة فقال: أكرمتني فزرتني.
وكان بعض أهل العربية يزعم أن في الكلام محذوفا، لولا ذلك لم يكن الكلام صحيحا، وأن معنى ذلك: وكم من قرية أهلكناها، فكان مجئ بأسنا إياها قبل إهلاكنا. وهذا قول لا دلالة على صحته من ظاهر التنزيل ولا من خبر يجب التسليم له، وإذا خلا القول من دلالة على صحته من بعض الوجوه التي يجب التسليم لها كان بينا فساده.
وقال آخر منهم أيضا: معنى الفاء في هذا الموضع معنى الواو، وقال: تأويل الكلام:
وكم من قرية أهلكناها وجاءها بأسنا بياتا. وهذا قول لا معنى له، إذ كان للفاء عند العرب من الحكم ما ليس للواو في الكلام، فصرفها إلى الأغلب من معناها عندهم ما وجد إلى ذلك سبيل أولى من صرفها إلى غيره.
فإن قال: كيف قيل: فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون، وقد علمت أن الأغلب من شأن أو في الكلام اجتلاب الشك، وغير جائز أن يكون في خبر الله شك؟ قيل: إن تأويل ذلك خلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: وكم من قرية أهلكناها فجاء بعضها بأسنا بياتا، وبعضها وهم قائلون. ولو جعل مكان أو في هذا الموضع الواو لكان الكلام كالمحال، ولصار الأغلب من معنى الكلام: إن القرية التي أهلكها الله جاءها بأسه بياتا، وفي وقت القائلة وذلك خبر عن البأس أنه أهلك من قد هلك وأفنى من قد فني، وذلك من الكلام خلف ولكن الصحيح من الكلام هو ما جاء به التزيل، إذ لم يفصل القرى التي جاءها البأس بياتا من القرى التي جاءها ذلك قائلة، ولو فصلت لم يخبر عنها إلا بالواو.
وقيل: فجاءها بأسنا خبرا عن القرية أن البأس أتاها، وأجرى الكلام على ما ابتدئ به في أول الآية ولو قيل: فجاءهم بأسنا بياتا لكان صحيحا فصيحا ردا للكلام إلى معناه، إذ كان البأس إنما قصد به سكان القرية دون بنيانها، وإن كان قد نال بنيانها ومساكنها من البأس بالخراب نحو من الذي نال سكانها. وقد رجع في قوله: أو هم قائلون إلى خصوص الخبر عن سكانها دون مساكنها لما وصفنا من أن المقصود بالبأس كان السكان وإن كان في هلاكهم هلاك مساكنهم وخرابها. ولو قيل: أو هي قائلة كان صحيحا إذ كان السامعون قد فهموا المراد من الكلام.