وذهب البعض إلى أنه الشخص الذي لا يكذب مطلقا، بل وأسمى من ذلك، وهو أنه لا يملك القدرة على الكذب، لأنه اعتاد طيلة حياته على الصدق. ويرى آخرون أن معناها الشخص الذي يصدق عمله كلامه واعتقاده. إلا أن من الواضح أن جميع هذه المعاني - تقريبا - ترجع إلى معنى واحد.
على كل حال، فإن هذه الصفة مهمة إلى حد أنها ذكرت في الآية - محل البحث - قبل صفة النبوة، ولعلها بذلك تكون ممهدة لتلقي النبوة، وإذا تجاوزنا ذلك فإن أبرز صفة يلزم وجودها في كل الأنبياء وحملة الوحي الإلهي أن يوصلوا أوامر الله إلى العباد دون زيادة أو نقصان.
ثم تتطرق الآية التي بعدها إلى شرح محاورته مع أبيه آزر - والأب هنا إشارة إلى العم، فإن كلمة الأب، كما قلنا سابقا، ترد أحيانا في لغة العرب بمعنى الأب، وأحيانا بمعنى العم (1) - فتقول: إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.
إن هذا البيان القصير القاطع من أحسن أدلة نفي الشرك وعبادة الأوثان، لأن أحد بواعث الإنسان في معرفة الرب هو باعث الربح والخسارة، والضر والنفع، والذي يعبر عنه علماء العقائد بمسألة (دفع الضرر المحتمل). فهو يقول: لماذا تتجه إلى معبود ليس عاجزا عن حل مشكلة من مشاكلك وحسب، بل إنه لا يملك أصلا القدرة على السمع والبصر. وبتعبير آخر: إن العبادة يجب أن تكون لمن له القدرة على حل المشاكل، ويدرك عباده وحاجاتهم، سميع بصير، إلا أن هذه الأصنام فاقدة لكل ذلك.
إن إبراهيم يبدأ في دعوته العامة بأبيه، وذلك لأن النفوذ في الأقربين أهم وأولى، كما أن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أمر أولا بدعوة عشيرته الأقربين كما جاء في ذلك في الآية (214) من سورة الشعراء: وأنذر عشيرتك الأقربين.