ولقد بالغ الله سبحانه وتعالى في التوصية لهما، حيث افتتحها بأن وشفع الاحسان إليهما بتوحيده ونظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثم ضيق الأمر في مراعاتهما، حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع موجبات الضجرة ومقتضياته ومع أحوال لا يكاد يدخل صبر الانسان معها في الاستطاعة، ثم زاد و نهى عن منافيهما أيضا مرة أخرى وقال: " ولا تنهرهما " أي لا تزجر عما يتعاطيانه مما لا يعجبك ثم قال: " وقل لهما " بدل النهر والتأفيف " قولا كريما " جميلا يقتضيه حسن الأدب والنزول على المروة، وقيل هو أن يقول يا أبتاه ويا أماه كما قال إبراهيم على نبينا وآله وعليه السلام لأبيه " يا أبت " مع كفره ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وعادة الدعاء كله من الكشاف.
ثم أمر بالخضوع والتذلل بقوله " واخفض لهما جناح الذل " وهو كناية عن غاية الملاءمة وانحطاط النفس، فأضيف الجناح إلى الذل كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل، أو الذلول، ويحتمل أن يجعل لذله جناحا خفيضا كما جعل للشمال يدا وللقرة زماما، مبالغة في التذلل والتواضع لهما، قال في مجمع البيان: وإذا وصف العرب إنسانا بالسهولة وترك الآباء قالوا هو خافض الجناح، وقال أبو عبد الله عليه السلام: معناه لا تمل عينيك من النظر إليهما إلا برحمة ورأفة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدم قدامهما " من الرحمة " من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما لكبرهما و افتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس ثم قال: ولا يكتف بالخضوع والرحمة لهما إذ لا بقاء لهما، وليس لها زيادة نفع، بل ادع لهما واطلب من الله رحمته لهما، بأن يرحمهما برحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك.
" ربكم أعلم بما في نفوسكم " في ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين و اعتقاد ما يجب لهما من التوقير " إن تكونوا صالحين " قاصدين الصلاح والبر، ثم " فرطت منكم في حال الغضب وضيق الصدر وغير ذلك مما لا يخلو منه البشر خصلة