الحكم: إنه قد طال العهد بعبد الله بن عباس وما كان شجر بيننا وبينه وبين ابن عمه، ولقد كان نصبه للتحكيم فدفع عنه، فحركوه على الكلام لنبلغ حقيقة صفته، ونقف على كنه معرفته، ونعرف ما صرف عنا من شبا حده وزوي عنا من دهاء رأيه، فربما وصف المرء بغير ما هو فيه وأعطي من النعت والاسم ما لا يستحقه.
ثم أرسل إلى عبد الله بن عباس، فلما دخل واستقر به المجلس ابتدأه ابن أبي سفيان، فقال: يا ابن عباس، ما منع عليا أن يوجه بك حكما؟ فقال: أما والله لو فعل لقرن عمرا بصعبة من الإبل يوجع كفه مراسها، ولأذهلت عقله، وأجرضته بريقه، وقدحت في سويداء قلبه، فلم يبرم أمرا ولم ينفض ترابا إلا كنت منه بمرأى ومسمع، فإن أنكأه أدميت قواه، وإن أدمه فصمت عراه بغرب مقول لا يفل حده، وأصالة رأي كمتاح الأجل لا وزر منه، أصدع به أديمه، وأفل به شباحده، وأشحذ به عزائم المتقين، وأزيح به شبه الشاكين.
فقال عمرو بن العاص: هذا والله - يا أمير المؤمنين - نجوم أول الشر وأفول آخر الخير، وفي حسمه قطع مادته، فبادره بالحملة، وانتهز منه الفرصة، واردع بالتنكيل به غيره، وشرد به من خلفه.
فقال ابن عباس: يا ابن النابغة، ضل والله عقلك، وسفه حلمك، ونطق الشيطان على لسانك، هلا توليت ذلك بنفسك يوم صفين، حين دعيت نزال وتكافح الأبطال وكثرت الجراح وتقصفت الرماح، وبرزت إلى أمير المؤمنين مصاولا فانكفأ نحوك بالسيف حاملا، فلما رأيت الكواشر من الموت أعددت حيلة السلامة قبل لقائه والانكفاء عنه بعد إجابة لقائه فمنحته - رجاء النجاة - عورتك! وكشفت له خوف بأسه سوأتك! حذرا أن يصطلمك بسطوته ويلتهمك بحملته، ثم أشرت على معاوية كالناصح له بمبارزته وحسنت له التعرض لمكافحته، رجاء أن تكتفي مؤنته وتعدم صورته، فعلم غل صدرك وما انحنت