والجنون، وتارة إلى الكفر والخروج عن الدين وقوله " ولقد خالطهم أمر عظيم " هو اشتغال أسرارهم بملاحظة جلال الله، ومطالعة أنوار الملأ الأعلى.
الثانية والعشرون: كونهم لا يرضون [من أعمالهم] القليل إلى قوله " الكبير " وذلك لتصورهم شرف غايتهم المقصودة بأعمالهم وقوله " فهم لأنفسهم متهمون - إلى قوله - ما لا يعلمون " فتهمتهم لأنفسهم وخوفهم من أعمالهم يعود إلى شكهم فيما يحكم به أوهامهم من حسن عبادتهم، وكونها مقبولة أو واقعة على الوجه المطلوب الموصل إلى الله تعالى فان هذا الوهم يكون مبدءا للعجب بالعبادة والتقاصر عن الازدياد عن العمل والتشكك في ذلك وتهمة النفس بانقيادها في ذلك الحكم للنفس الامارة يستلزم خوفها أن يكون تلك الأعمال قاصرة عن الوجه المطلوب وغير واقعة عليه، وذلك باعث على العمل وكاسر للعجب به، وقد عرفت أن العجب من المهلكات كما قال عليه السلام:
ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهو متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وكذلك خوفهم من تزكية الناس لهم هو الدواء لما ينشأ من تلك التزكية من الكبر والعجب بما يزكون به، فيكون جواب أحدهم عند تزكيته أني أعلم بنفسي من غيري إلى آخره.
ثم شرع عليه السلام بعد ذلك في علاماتهم التي بجملتها يعرف أحدهم، والصفات السابقة وإن كان كثير منها مما يخص أحدهم ويعرف به إلا أن بعضها قد يدخله الرياء، فلا يدل على التقوى الحقة، فجمعها ههنا ونسقها.
فالأولى: القوة في الدين، وذلك أن يقاوم في دينه الوسواس الخناس، ولا يدخل فيه خداع الناس، وهذا إنما يكون في الدين العالم.
الثانية: الحزم في الأمور الدنيوية والدينية، والتثبت فيها ممزوجا باللين للخلق، وعدم الفضاضة عليهم كما في المثل " لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتلفظ " (1)