50 - نهج البلاغة: روي أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام (1) يقال له: همام كان رجلا عابدا، فقال له: يا أمير المؤمنين صف لي المتقين، حتى كأني أنظر إليهم، فتثاقل عن جوابه، ثم قال عليه السلام: يا همام اتق الله وأحسن! فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فلم يقنع همام بذلك القول حتى عزم عليه، قال: فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال:
أما بعد فان الله سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنه لا تضره معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسم بينهم معايشهم، ووضعهم من الدنيا مواضعهم.
فالمتقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، و مشيهم التواضع، غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء، لولا الاجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثواب، و خوفا من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها، فهم فيما منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة، أجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها.
أما الليل فصافون أقدامهم، تالين لاجزاء القرآن، يرتلونه ترتيلا يحزنون به أنفسهم، ويستشيرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليه مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم.