قال بعض المنسوبين إلى العلم: اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله عز وجل، فكان هذا يقتضي أن يكون معرفته أول المعارف، وأسبقها إلى الافهام وأسهلها على العقول، ونرى الامر بالضد من ذلك، فلابد من بيان السبب فيه.
وإنما قلنا إن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله، لمعنى لا تفهمه إلا بمثال هو: أنا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط مثلا، كان كونه حيا من أظهر الموجودات فحياته وعلمه وقدرته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة، إذ صفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه، وكل ذلك لا نعرفه، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها، وبعضها نشك فيه، كمقدار طوله، واختلاف لون بشرته وغير ذلك من صفاته.
أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيوانا فإنه جلي عندنا، من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته فان هذه الصفات لا تحس بشئ من الحواس الخمس، ثم لا يمكن أن يعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته، فلو نظرنا إلى كل ما في العلم سواء لم نعرف به صفاته، فما عليه إلا دليل واحد، وهو مع ذلك جلي واضح.
ووجود الله وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر، ونبات وشجر، وحيوان وسماء وأرض وكوكب، وبر وبحر، ونار وهواء، وجوهر وعرض، بل أول شاهد عليه أنفسنا، وأجسامنا، وأصنافنا، وتقلب أحوالنا، وتغير قلوبنا، وجميع أطوارنا، في حركاتنا وسكناتنا.
وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا، ثم محسوساتنا بالحواس الخمس، ثم مدركاتنا بالبصيرة والعقل، وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد، وشاهد ودليل واحد، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة، وأدلة شاهدة، بوجود خالقها ومدبرها، ومصرفها ومحركها، ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته.
والموجودات المدركة لا حصر لها، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا