فالأشقياء وإن انتقلوا إلى نشأة من جنس نشأة الملكوت، خلقت بتبعيتها بالعرض، إلا أنهم يحملون معهم من الدنيا من صور أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم مما لا يمكن انفكاكهم عنه مما يتأذون به، ويعذبون بمجاورته، من سموم وحميم وظل من يحموم، ومن حياة وعقارب وذوات لدغ وسموم، ومن ذهب وفضة كنزوها في دار الدنيا ولم ينفقوها في سبيل الله واشرب في قلوبهم محبتها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ومن آلهة يعبدونها من دون الله من حجر أو خشب أو حيوان أو غيرها، مما يعتقدون فيه أنه ينفعهم وهو يضرهم، إذ يقال إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم - وبالجملة المرء مع من أحب فمحبوب الأشقياء لما كان من متاع الدنيا الذي لا حقيقة له ولا أصل، بل هو متاع الغرور، فإذا كان يوم القيامة وبرزت وحواق الأمور كسد متاعهم، وصار لا شيئا محضا فيتألمون بذلك، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا التي هي وطنهم المألوف، لأنهم من أهلها ليسوا من أهل النشأة الباقية، لأنهم رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فإذا فارقوها عذبوا بفراقها في نار جهنم.
أعمالهم التي أحاطت بهم، وجميع المعاصي والشهوات، يرجع إلى متاع هذه النشأة الدنياوية ومحبتها، فمن كان من أهلها عذب بمفارقتها لا محالة، ومن ليس من أهلها وإنما ابتلي بها، وارتكبها مع إيمان منه بقبحها، وخوف من الله سبحانه في إتيانها، فلا جرم يندم على ارتكابها، إذا رجع إلى عقله، وأناب إلى ربه فيصير ندامته عليها، والاعتراف بها، وذل مقامه بين يدي ربه حياء منه تعالى سببا لتنوير قلبه، وهذا المعنى تبديل سيئاتهم حسنات.
فالأشقياء إنما عذبوا بما لم يفعلوا لحنينهم إلى ذلك، وشهوتهم له، وعقد ضمائرهم على فعله دائما إن تيسر لهم، لأنهم كانوا من أهله ومن جنسه، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
والسعداء إنما لم يخلدوا في العذاب، ولم يشتد عليهم العقاب، بما فعلوا من القبائح، لأنهم ارتكبوا على كره من عقولهم، وخوف من ربهم، لأنهم لم