هذا الكلام مقبول لدى جميع الماديين والمتألهين في العالم، فقد أقر العقلاء والعلماء جميعهم بأن الانقياد للغرائز وإرضاءها بلا قيد أو شرط يتنافى مع التمدن والسعادة البشرية.
«تقضي الحياة، وخصوصا الحياة الاجتماعية للانسان، أن تهدى الغرائز الأولى منذ البداية، وتوجه نحو الأهداف الاجتماعية، وبصورة أوضح نقول: كما أنه يجب إقامة سد أمام مجرى الماء لإدارة محرك من المحركات المعتمدة على قوة الماء فإن التمدن يجب أن يخضع الغرائز لسيطرة دقيقة، وذلك ليبلغ بالانسان إلى الرقي والتكامل» (1).
إن أول نكتة يجب أن تسترعي انتباهنا في هذا المقام، هي أن إرضاء جميع الميول النفسانية بصورة حرة وبلا قيد أو شرط أمر مستحيل. ذلك لأن تحقيق بعض الرغبات يتنافى مع إتيان الرغبات الأخرى، وفي الواقع يوجد تناقض واضح بين كثير من ميول الانسان. لقد أوضح الامام علي عليه السلام التناقض القائم بين بعض الميول والرغبات بعبارة قصيرة وحكيمه، إنه يقول:
«ما أعجب أمر الانسان، إن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن سعد نسي التحفظ، وإن ناله خوف حيره الحذر ، وإن اتسع له الأمن أسلمته الغيرة، وإن جددت له النعمة أخذته العزة، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شمله البلاء، وإن جهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط به مفسد، وكل خير معه شر، وكل شيء له آفة» (2).
فما أكثر الرغبات النفسية التي تدفع الانسان إلى الافراط في الاستجابة