الأعصار إلا نقل الآحاد لم يبق على حد التواتر ولا يورث العلم إلا ما تواتر، ولكن الآحاد لفظها يتطرق الاحتمال والتأويل إليه فلا يحصل العلم بآحادها، وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها، فلم ينقل إلينا، فكفينا مؤونة البحث عن المستند لما علمناه من التواتر من إجماعهم، ونحن مع هذا نشبع القول في شرح مستندات الصحابة والألفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس، وذلك من القرآن، وقوله تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار... الخ.). انتهى.
أقول: كلام الغزالي هذا نموذج لكلامهم المتهافت في الموضوع! فهو يقوم على دعويين فاسدتين: الأولى: أن فعل الصحابة واجب الاتباع، حتى لو خالف قولهم الصريح الصحيح! وخالف نص القرآن الصريح!
والثانية: أن الصحابة أجمعوا عمليا على العمل بالرأي والظن، وإجماعهم إجماع الأمة، وهو حجة ولا نسأل عن دليله، بل يجب اتباعه حتى لو كان إجماعا على اختراع شريعة! وهذا معنى قوله: (إن هذه مؤونة كفيناها، فإنهم مهما أجمعوا على القياس فقد ثبت بالقواطع أن الأمة لا تجتمع على الخطأ، بل لو وضعوا القياس واخترعوه استصوابا برأيهم ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الاتباع)!! انتهى.
وهذا تغميض هذا للعيون، وإفراط في اتباع الصحابة، حتى لو خالفوا القرآن والرسول صلى الله عليه وآله، وناقضوا أنفسهم، وأسسوا دينا جديدا!
كما أنه إعراض عن تحريم العترة النبوية للظنون في الدين، وهم صحابة وعترة؟! فعن أي إجماع يتحدث عنه الغزالي وأهل البيت عليهم السلام مخالفون له؟!
واي إجماع هذا، وقد نقل بعض كبار علمائهم الإجماع على ضده؟!
قال الرازي في المحصول: 5 / 104: (وأما إجماع الصحابة، فهو أنه نقل عن كثير منهم التصريح بذم القياس على ما تقدم بيانه، ولم يظهر من أحد منهم الإنكار على ذلك الذم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على فساد القياس.
فإن قلت: هذا معارض بأنه نقل عنهم أنهم اختلفوا في مسائل مع أنه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلا القياس.
قلت: ما ذكرناه أولى، لأن التصريح راجح على ما ليس بتصريح.
وأما إجماع العترة، فلأنا كما نعلم بالضرورة بعد مخالطة أصحاب النقل، أن مذهب الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ومالك رحمهما الله القول بالقياس، فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل البيت كالصادق والباقر إنكار القياس. وقد تقدم في باب الإجماع أن إجماع العترة حجة). انتهى.
ثم أي منطق هذا في تصحيح عمل شخص أو جماعة بالظن، وقد نهى عنه القرآن والسنة والعقل، بأن دليلهم موجود لكنه ضاع ولم يصلنا؟!
أنظر إلى قوله: (نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر..... لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس فلم ينقل.... ولكن لم يبق في هذه الأعصار إلا نقل الآحاد... وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها، فلم ينقل إلينا...). انتهى.
فقد اعترف بعدم وجود دليل على عمل الصحابة بالظن، لكنه افترض أنه موجود وقد ضاع نصفه فلم يصل الينا! وكان نصفه الآخر قرائن اعتمدوا عليها لا يمكن وصفها ونقلها الينا!
وهذا كله رجم بالغيب، يفترض في الصحابة العصمة وأنهم لا يخطئون!!
أقوى أدلتهم على القياس.. مضحك!
أصل حجتهم على القياس والعمل بالظنون، عمل الخلفاء خاصة عمر بن الخطاب، لكنهم أرادوا أن يبرروا ذلك ويجدوا أدلة من الكتاب والسنة، فوقع نظرهم على قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) فقالوا الحمد لله إن معناها فقيسوا يا أولي الأبصار!!
والآية هي الثانية من سورة الحشر، نزلت في حشر اليهود الأول، قال تعالى: سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم. هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ومعنى الآية: خذوا العبرة من مصير بني قريظة، وإرادة الله الماضية فيهم وفي أمثالهم: كيف تحزبوا على النبي صلى الله عليه وآله مع الأحزاب، ولما انهزم الأحزاب قذف الله في قلوبهم الرعب فاستسلموا، فخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين!
فأين القياس الذي يريدونه من الآية، قياس أمر على آخر وإعطاؤه حكمه لمجرد الظن أنه يشبهه، والظن أنه يشترك معه في العلة؟!