تصورية كذلك المذهب التجريبي يعجز عن البرهنة عليها بصفتها مبدأ وفكرة تصديقية. فان التجربة لا يمكنها ان توضح لنا الا التعاقب بين ظواهر معينة، فنعرف عن طريقها ان الماء يغلي إذا صار حارا بدرجة مائة. وانه يتجمد حين تنخفض درجة حرارته إلى الصفر، واما سببية احدى الظاهرتين للأخرى والضرورة القائمة بينهما فهي مما لا تكشفها وسائل التجربة مهما كانت دقيقة ومهما كررنا استعمالها. وإذا انهار مبدأ العلية انهارت جميع العلوم الطبيعية كما ستعرف.
وقد اعترف بعض التجريبيين ك (دافيد هيوم) و (جون ستيوارت ميل) بهذه الحقيقة، ولذلك فسر (هيوم) عنصر الضرورة في قانون العلة والمعلول بأنه راجع إلى طبيعة العملية العقلية التي تستخدم في الوصول إلى هذا القانون قائلا: ان احدى عمليات العقل إذا كانت تستدعي دائما عملية أخرى تتبعها بدون تخلف فإنه ينمو بين العمليتين بمضي الزمن رابطة قوية دائمة هي التي نسميها رابطة تداعي المعاني، ويصحب هذا التداعي نوع من الالزام العقلي بحيث يحصل في الذهن المعنى المتصل بإحدى العمليتين العقليتين كما حدث المعنى المتصل بالعملية الأخرى، وهذا الالزام العقلي أساس ما نسميه بالضرورة التي ندركها في الرابطة بين العلة والمعلول.
وليس من شك في أن هذا التفسير للضرورة القائمة بين العلة والمعلول ليس صحيحا لما يأتي:
أولا: انه يلزم على هذا التفسير أن لا نصل إلى قانون العلية العام الا بعد سلسلة من الحوادث والتجارب المتكررة التي تحكم الرباط بين فكرتي العلة والمعلول في الذهن، مع انه ليس من الضروري ذلك، فان العالم الطبيعي يستطيع ان يستنتج علاقة علية وضرورة بين شيئين يقعان في حادثة واحدة، ولا يزداد يقينه شيئا عما كان عليه عند مشاهدته الحادثة للمرة الأولى، كما لا تزداد علاقة العلية قوة بتكرار حوادث أخرى يوجد فيها المعلول والعلة نفسها.
ثانيا: لندع الظاهرتين المتعاقبتين في الخارج ولنلاحظ فكرتيهما في الذهن - أي فكرة العلة وفكرة المعلول - فهل العلاقة القائمة بينهما علاقة