هذه الأمور لا يمكن التصديق بأن الوجود والعدم لا يجتمعان. فان تصديق الانسان بشيء لم يتصوره أمر غير معقول. وقد عرفنا عند محاولة تعليل التصورات الذهنية انها ترجع جميعا إلى الحس وتنبثق عنه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فيجب أن يكتسب الانسان مجموعة التصورات التي يتوقف عليها مبدأ عدم التناقض عن طريق الحس ليتاح له أن يحكم بهذا المبدأ ويصدق به، فتأخر ظهور هذا المبدأ في الذهن البشري لا يعني انه ليس ضروريا وليس منبثقا عن صميم النفس الانسانية بلا حاجة إلى سبب خارجي، بل هو ضروري ونابع عن النفس بصورة مستقلة عن التجربة، ولكن التصورات الخاصة شرائط وجوده وصدوره عن النفس، وإذا شئت فقس النفس والمبادئ الأولية بالنار واحراقها. فكما ان احراق النار فعالية ذاتية للنار ومع ذلك لا توجد هذه الفعالية الا في ظل شروط، أي في ظرف ملاقاة النار لجسم يابس، كذلك الاحكام الأولية فإنها فعاليات ضرورية وذاتية للنفس في الظروف التي تكتمل عندها التصورات اللازمة.
وإذا أردنا ان نتكلم على مستوى ارفع قلنا ان المعارف الأولية وان كانت تحصل للانسان بالتدريج، الا أن هذا التدريج ليس معناه انها حصلت بسبب التجارب الخارجية، لأننا برهنا على ان التجارب الخارجية لا يمكن ان تكون المصدر الأساسي للمعرفة، بل التدرج انما هو باعتبار الحركة الجوهرية والتطور في النفس الانسانية، فهذا التطور والتكامل الجوهري هو الذي يجعلها تزداد كمالا ووعيا للمعلومات الأولية والمبادئ الأساسية فيفتح ما كمن فيها من طاقات وقوى.
وهكذا يتضح ان الاعتراض على المذهب العقلي بأنه: لماذا لم توجد المعلومات الأولية مع الانسان حين ولادته ينبني على عدم الاعتراف بالوجود بالقوة، وباللاشعور الذي تدل عليه الذاكرة بكل وضوح، واذن فالنفس الانسانية بذاتها تنطوي بالقوة على تلك المعارف الأولية، وبالحركة الجوهرية يزداد وجودها شدة، حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.