فإنها لا تريد ان تسلم بوجود معرفة منفصلة عن التجربة، وهذا هو التناقض الأساسي الذي تقوم عليه نظرية المعرفة في المادية الديالكتيكية، ذلك ان العقل لو لم يكن لديه معارف ثابتة بصورة مستقلة عن التجربة لم يستطع ان يضع النظرية على ضوء الادراكات الحسية، وان يكون مفهوما للمعطيات التجريبية. فان استنتاج مفهوم خاص من الظواهر المحسوسة بالتجربة انما يتاح للانسان إذا كان يعرف على الأقل ان ظواهر كهذه تقتضي بطبيعتها مفهوما كذاك، فيركز استنتاجه لنظريته الخاصة على ذلك.
ولأجل ان يتضح هذا يجب أن نعرف ان التجربة، كما تعترف الماركسية، تعكس ظواهر الأشياء، ولا تكشف عن جوهرها وقوانينها الداخلية التي تهيمن على تلك الظواهر وتنسقها، ومهما كررنا التجربة وأعدنا التطبيق العملي فسوف لا نحصل - على أفضل تقدير - الا على اعداد جديدة من الظواهر السطحية المنفصلة. ومن الواضح ان هذه الادراكات الحسية التي نستحصلها بالتجربة لا تقتضي بذاتها تكوين مفهوم عقلي خاص عن الشيء الخارجي، لأن هذه الادراكات الحسية التي هي الخطوة الأولى من المعرفة قد يشترك فيها افراد عديدون ولا ينتهون جميعا إلى نظرية موحدة ومفهوم واحد عن جوهر الشيء وقوانينه الواقعية، فنعرف من ذلك ان الخطوة الأولى من المعرفة ليست كافية بمفردها لتكوين نظرية أي لنقل الانسان بصورة طبيعية أو ديالكتيكية إلى الخطوة الثانية للمعرفة الحقيقية. فما هو الشيء الذي يجعلنا ننتقل من الخطوة الأولى إلى الخطوة الثانية؟
ان ذلك الشيء هو معارفنا العقلية المستقلة عن التجربة التي يرتكز على أساسها المذهب العقلي، فان تلك المعارف هي التي تتيح لنا ان نعرض عدة من النظريات والمفاهيم ونلاحظ مدى انسجام الظواهر المنعكسة في تجاربنا وحواسنا معها، فنستبعد كل مفهوم لا يتفق مع تلك الظواهر حتى نحصل على المفهوم الذي ينسجم مع الظواهر المحسوسة والتجريبية بحكم المعارف العقلية الأولية، فنضعه كنظرية تفسر جوهر الشيء وقوانينه الحاكمة فيه.
وإذا استبعدنا من أول الأمر المعارف العقلية المستقلة عن التجربة فسوف