ندرك تعاقبهما كثيرا حتى تحصل بينهما رابطة تداعي المعاني في الذهن لكان الليل والنهار من هذا القبيل. فكما أن الحرارة والغليان حادثان تعاقبا حتى نشأت بينهما رابطة التداعي كذلك الليل والنهار وتعاقبهما وتداعيهما، مع أن عنصر العلية والضرورة الذي ندركه بين الحرارة والغليان ليس موجودا بين الليل والنهار، فليس الليل علة للنهار ولا النهار علة لليل، فلا يمكن اذن تفسير هذا العنصر بمجرد التعاقب المتكرر والمؤدي إلى تداعي المعاني كما حاوله (هيوم).
ونخلص من ذلك إلى أن المذهب التجريبي يؤدي حتما إلى اسقاط مبدأ العلية، والعجز عن اثبات علاقات ضرورية بين الأشياء، وإذا سقط مبدأ العلية انهارت جميع العلوم الطبيعية باعتبار ارتكازها عليه كما ستعرف.
ان العلوم الطبيعية التي يريد التجريبيون اقامتها على أساس التجربة الخالصة هي بنفسها تحتاج إلى أصول عقلية أولية سابقة على التجارب. ذلك أن التجربة انما يقوم العالم بها في مختبره على جزئيات موضوعية محدودة، فيضع نظرية لتفسير الظواهر التي كشفتها التجربة في المختبر وتعليلها بسبب واحد مشترك، كالنظرية القائلة بأن سبب الحرارة هو الحركة استنادا إلى عدة تجارب فسرت بذلك، ومن حقنا على العالم الطبيعي أن نسأله عن كيفية اعطائه للنظرية بصفة قانون كلي ينطبق على جميع الظروف المماثلة لظروف التجربة، مع أن التجربة لم تقع الا على عدة أشياء خاصة، أفليس هذا التعميم يستند إلى قاعدة وهي أن الظروف المتماثلة والأشياء المتشابهة في النوع والحقيقة يجب أن تشترك في القوانين والنواميس؟ وهنا نتساءل مرة أخرى عن هذه القاعدة، كيف توصل إليها العقل؟ ولا يمكن للتجريبيين هنا أن يزعموا انها قاعدة تجريبية بل يجب أن تكون من المعارف العقلية السابقة على التجربة، لأنها لو كانت مستندة إلى تجربة فهذه التجربة التي ترتكز عليها القاعدة هي أيضا لا تتناول بدورها الا موارد خاصة، فكيف ركزت على أساسها قاعدة عامة؟! فبناء قاعدة عامة وقانون كلي على ضوء تجربة واحدة أو عدة تجارب لا يمكن ان يتم الا بعد التسليم بمعارف عقلية سابقة.