للحس في المجالات التجريبية انما هو ظواهر المادة وأعراضها وأما نفس المادة بالذات - الجوهر المادي الذي تعرضه تلك الظواهر والصفات - فهي لا تدرك بالحس، فالوردة التي نراها على الشجرة أو نلمسها بيدنا انما نحس برائحتها ولونها ونعومتها. وحتى إذا تذوقناها فإننا نحس بطعمها ولا نحس في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده، وانما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقلية الأولية - كما سنشير اليه في البحوث المقبلة - ولأجل ذلك أنكر عدة من الفلاسفة الحسيين التجريبيين وجود المادة. فالسند الوحيد لاثبات المادة هو معطيات العقل الأولية، ولولاها لما كان في طاقة الحس أن يثبت لنا وجود المادة وراء الرائحة الذكية واللون الأحمر والطعم الخاص للوردة.
وهكذا يتضح لنا أن الحقائق الميتافيزيقية ليست هي وحدها التي يحتاج اثباتها إلى اتخاذ الطريقة العقلية في التفكير بل المادة نفسها كذلك أيضا.
وهذا الاعتراض انما نسجله بطبيعة الحال من يؤمن بوجود جوهر مادي في الطبيعة على أسس المذهب التجريبي، وأما من يفسر الطبيعة بمجرد ظواهر تحدث وتتغير دون ان يعترف لها بموضوع تلتقي عنده..
فلا صلة له بهذا الاعتراض.
الثالث:
ان الفكر لو كان محبوسا في حدود التجربة ولم يكن يملك معارف مستقلة عنها لما أتيح له أن يحكم باستحالة شيء من الأشياء مطلقا، لأن الاستحالة - بمعنى عدم امكان وجود الشيء - ليس مما يدخل في نطاق التجربة ولا يمكن للتجربة ان تكشف عنه، وقصارى ما يتاح للتجربة أن تدلل عليه هو عدم وجود أشياء معينة، ولكن عدم وجود شيء لا يعني استحالته، فهناك عدة أشياء لم تكشف التجربة عن وجودها بل دلت على عدمها في نطاقها الخاص، ومع ذلك فنحن لا نعتبرها مستحيلة ولا نسلب عنها امكان الوجود كما نسلبه عن الأشياء المستحيلة، فكم يبدو الفرق جليا بين اصطدام القمر بالأرض أو وجود بشر في المريخ أو وجود انسان يتمكن من الطيران لمرونة خاصة في عضلاته من ناحية، وبين وجود مثلث له أربعة أضلاع ووجود جزء