يصبح ويمسي في الابتلاء. قال الحجاج: فأنا أضحك. فقال سعيد: كذلك خلقنا الله أطوارا. قال الحجاج: هل رأيت شيئا من اللهو؟ قال: لا أعلمه. فدعا الحجاج بالعود والناي. قال: فلما ضرب العود، ونفخ في الناي بكى سعيد. قال الحجاج: ما يبكيك؟ قال: يا حجاج ذكرتني أمرا عظيما، والله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسيت، ولا زلت حزينا لما رأيت. قال الحجاج: وما كنت رأيت هذا اللهو؟ فقال سعيد: بل هذا والله الحزن يا حجاج، أما هذه النفخة، فذكرتني يوم النفخ في الصور (1)، وأما هذا المصران (2) فمن نفس ستحشر معك إلى الحساب، وأما هذا العود فنبت بحق، وقطع لغير حق. فقال الحجاج: أنا قاتلك. قال سعيد: قد فرغ من تسبب في موتي. قال الحجاج: أنا أحب إلى الله منك؟ قال سعيد: لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم. قال الحجاج: كيف لا أقدم على ربي في مقامي هذا، وأنا مع إمام الجماعة، وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟ قال سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة، ولا أنا براض عن الفتنة، ولكن قضاء الرب نافذ لا مرد له. قال الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ قال سعيد: لم أر، فدعا الحجاج بالذهب والفضة، والكسوة والجوهر، فوضع بين يديه. قال سعيد: هذا حسن إن قمت بشرطه. قال الحجاج: وما شرطه؟ قال: أن تشتري له بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وإلا فإن كل مرضعة تذهل عما أرضعت (3)، ويضع كل ذي حمل حمله، ولا ينفعه إلا ما طاب منه. قال الحجاج: فترى طيبا؟ قال: برأيك جمعته، وأنت أعلم بطيبه. قال الحجاج: أتحب أن لك شيئا منه؟ قال: لا أحب ما لا يحب الله. قال الحجاج: ويلك. قال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة فأدخل النار. قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. قال: إني أشهدك يا حجاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أستحفظكهن يا حجاج حتى ألقاك. فلما أدبر ضحك. قال الحجاج (4): ما يضحكك يا سعيد؟
(٦٢)