موت أبي جعفر المنصور واستخلاف المهدي قال: وذكروا أنه لما كانت سنة ست وستين ومائة (1) قدم أبو جعفر مكة، فلما قضى حجة احتضر ثلاثة أيام (2)، ثم توفي في اليوم الرابع، وولى ابنه محمد المهدي وكان معه يومئذ بمكة وأخوه جعفر ببغداد، وكان قد عهد إليه أبو جعفر.
فلما قفل المهدي إلى بغداد أتاه رجل فقال له: أدرك أخاك جعفرا (2)، فإنه قد هم بمنازعتك، وهو يريد خلعك، فأخذ في السير، ومعه الجنود والأموال، وصناديد الرجال من العراق، ورجال العرب، ووجوه قريش. فلما قدم العراق اعتذر إليه جعفر مما رفع إليه عنه، وحلف له أنه ما نوى ولا أراد منازعته، ولا أشار إلى خلافه، ولا هم به، فقبل منه المهدي ذلك، وعفا عنه، وكان كريما سخيا حليما، فلما كان سنة سبع وستين ومائة قدم حاجا، فدخل المدينة زائرا لقبر النبي صلى الله عليه وآله، فدخل عليه مالك، فحضه على الاحسان إلى أهل المدينة، وحدثه بفضلها وفضل أهلها، ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها: أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب (وهي المدينة) تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد، ثم قال يا أمير المؤمنين: أفليس هؤلاء أهلا أن يعانوا على الصبر عليها وعلى جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقال المهدي: بلى والله يا أبا عبد الله، حتى لا أجد إلا مثل هذا، ومد يده ليأخذ من الأرض شيئا فلم يجده. ثم قال صدقت فيهم وبررت، وحضضت على الرشد، فأنت أهل أن يطاع أمرك، ويسمع قولك، فأمر بخمسة أبيات مال، والبيت عندهم خمسمائة ألف، وأمر مالكا أن يختار من تلامذته رجالا يثق بهم، ويعتمد عليهم، يقسمونها على أهل المدينة، ويؤثرون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيت أبي بكر وعمر وعثمان، ثم أهل بيوت المهاجرين والأنصار، ثم الذين اتبعوهم بإحسان، ففعل فأغنى أهل المدينة عامهم ذلك.