وجد، وخذ بالحزم والكرم، ودع الإحن، وانظر أخاك عبد الله فلا يناله منك مكروه، فقد عفوت عنه، فقال الرشيد: يا أبت، وتعفو عنه، وقد أتى ما ذكرت، وصنع ما وصفت؟ قال يا بني: وما علي أن أعفو عمن أكرمني الله على يديه، وأرجو أن يغفر لي بصنيعته بي إن شاء الله. عليك يا بني بتقوى الله العظيم وطاعته، فاتخذها بضاعة يأتيك الربح من غير تجارة، وأوصيك بإخوتك خيرا، وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أقبل حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم، واغفر زلاتهم، وأوصيك بأهل الحرمين خيرا، فقد علمت من هم، وأبناء من هم، أجزل لهم العطاء، وأحسن لهم الجزاء، يكافئك الله في الآخرة والأولى.
ثم توفي المهدي من يومه ذاك، واستخلف الرشيد (1)، وخرج إلى الناس يبايعهم بوجه طلق ولسان سلط، فبايعوه ببغداد، وذلك يوم الخميس من المحرم سنة ثلاث وسبعين ومائة (2)، وتمت له البيعة يوم الجمعة في المسجد الجامع، فلم يختلف عليه أحد. ولا كره خلافته مخلوق، فأحسن السيرة، وأحكم أمر الرعية، وكان أوحد أهل بيته، ولم يشبهه أحد من الخلفاء من أهله، رحمه الله.
قدوم هارون الرشيد المدينة قال: وذكروا أنه لما كانت سنة أربع وسبعين ومائة، خرج هارون حاجا إلى مكة، فقدم المدينة زائرا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث إلى مالك بن أنس، فأتاه، فسمع منه كتابه الموطأ، وحضر ذلك يومئذ فقهاء الحجاز والعراق والشام واليمن، ولم يتخلف منهم أحد إلا حضر ذلك الموسم مع الرشيد وسمع وسمعوا من مالك موطأه الذي وضع، وكان قارئه يومئذ حبيب كاتب الرشيد.