بعد الوليد سليمان، فكتب إلى الحجاج ببيعة الوليد وسليمان، فبايع الحجاج لهما بالعراق، فلم يختلف عليه أحد، وبويع لهما بالشام ومصر واليمن، وكتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل، وهو عامله على المدينة، أن يأخذ بيعة أهل المدينة، فلما أتت البيعة لهما، كره ذلك سعيد بن المسيب، وقال: لم أكن لأبايع بيعتين في الإسلام بعد حديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا كانت بيعتان في الإسلام فاقتلوا الأحدث منهما " فأتاه عبد الرحمن بن عبد القاري، فقال: إني مشير عليك بثلاث خصال، اختر أيها شئت. قال: وما هي؟ قال له: إنك تقوم حيث يراك هشام بن إسماعيل، فلو غيرت مقامك؟ قال: ما كنت لأغير مقاما قمته منذ أربعين سنة لهشام بن إسماعيل. قال: فثانية. قال: وما هي؟ قال: أخرج معتمرا، قال سعيد: ما كنت لأجهد نفسي، وأنفق مالي في شئ ليس لي فيه نية. قال له: فثالثة، قال: وما هي؟ قال: تبايع للوليد، ثم لسليمان، قال سعيد: أرأيت إن كان الله قد أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما علي؟ قال: وكان عبد الرحمن هذا أعمى. قال:
فدعاه هشام بن إسماعيل إلى البيعة، وكان ابن عم سعيد بن المسيب، فلما علم بذلك القرشيون، أتوا هشاما فقالوا له: لا تعجل على ابن عمك حتى نكلمه ونخوفه القتل، فعسى به أن يبايع ويجيب. قال: فاجتمع القرشيون، فأرسلوا إلى سعيد مولى له كان في الحرس. فقالوا له: اذهب إليه، فخوفه القتل، وأخبره أنه مقتول، فلعله يدخل فيما دخل فيه الناس. فجاءه مولاه، فوجده قائما يصلي في مسجده، فبكى مولاه بكاء شديدا، قال له سعيد: ما يبكيك ويحك! قال: أبكي مما يراد بك. قال له سعيد: وما يراد بي، ويحك. قال: جاء كتبا من عبد الملك بن مروان، إلى هشام بن إسماعيل، إن لم تبايع وإلا قتلت، فجئتك لتطهر وتلبس ثيابا طاهرة وتفرغ من عهدك إن كنت لا تريد أن تبايع. فقال له سعيد: لا أم لك قد وجدتني أصلي في مسجدي، أفتراني كنت أصلي ولست بطاهر، وثيابي غير طاهرة! وأما ما ذكرت من أن أفرغ من عهدي، فما كنت لأوخر عهدي بعد ما حدثني به عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين له شئ يوصي به إلا ووصيته مكتوبة " (1)، فإذا شاؤوا فليفعلوا، فإني لم أكن لأبايع بيعتين في الإسلام. قال: