سنة أربع (1) وتسعين ومئة أثرت به، وأنهكت بدنه، واشتد ألمه، وتمادى به وجعه، فذكر البيعة لابنه المأمون. فلما سمعت بذلك زبيدة، وكان ابنها منه محمد الأمين، هجرته وتغاضت عنه، وأكربها ذلك وغمها، حتى ظهر ذلك عليها، وبدا أثر الغم في وجهها، ودخلت عليه تعاتبه في ذلك أشد المعاتبة، وتؤاخذه أعنف المؤاخذة. فقال لها الرشيد: ويحك! إنما هي أمة محمد، ورعاية من استرعاني الله تعالى مطوقا بعنقي وقد عرفت ما بين ابني وابنك، ليس ابنك يا زبيدة أهلا للخلافة، ولا يصلح للرعاية. قالت: ابني والله خير من ابنك، وأصلح لما تريد، ليس بكبير سفيه، ولا صغير فهيه، وأسخى من ابنك نفسا، وأشجع قلبا. فقال هارون: ويحك! إن ابنك قد زينه في عينك ما يزين الولد في عين الأبوين، فاتقي الله، فوالله إن ابنك لأحب إلي، إلا أن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان لها أهلا، ولها مستحقا، ونحن مسؤولون عن هذا الخلق، ومأخوذون بهذا الأنام، فما أغنانا أن نلقى الله بوزرهم، وننقلب إليه بإثمها، فاقعدي حتى أعرض عليك ما بين ابني وابنك، فقعدت معه على الفراش، فدعا ابنه عبد الله المأمون، فلما صار بباب المجلس سلم على أبيه بالخلافة، فأذن له بالجلوس فجلس، وأمر له فتكلم، فحمد الله على ما من به عليه من رؤية أبيه، ورغب إليه في تعجيل الفرج مما به، ثم استأذن في الدنو من أبيه، فدنا منه، وجعل يلثم أسافل قدميه ويقبل باطن راحتيه، ثم انثنى ساعيا إلى زبيدة، فأقبل على تقبيل رأسها، ومواضع ثدييها، ثم انحنى إلى قدميها، ثم رجع إلى مجلسه. فقال الرشيد: يا بني إني أريد أن أعهد إليك عهد الإمامة، وأقعدك مقعد الخلافة، فإني قد رأيتك لها أهلا وبها حقيقا، فاستعبر عبد الله المأمون باكيا، وصاح منتحبا يسأل الله العافية من ذلك، ويرغب إليه أن لا يريه فقد أبيه. فقال له: يا بني إني أراني لما بي وأنت أحق، وسلم الأمر لله، وارض به، واسأله العون عليه، فلا بد من عهد يكون في يومي هذا. فقال عبد الله المأمون: يا أبتاه، أخي أحق مني وابن سيدتي، ولا إخال إلا أنه أقوى على هذا الأمر مني، ثم أذن له فقام خارجا. ثم دعا هارون بابنه محمد، فأقبل يجر ذيله، ويتبختر في مشيته، فمشى داخلا بنعليه قد نسي السلام، وذهل عن
(٢٣٢)