جمع الله ذلك فيه، ولم يزل منذ نشأ كذلك قد منحه الله تعالى العلم والعمل، والفهم واللب والنبل، ووصل له ذلك بالدين والفضل، عرف منه ذلك صغيرا، وظهر فيه كبيرا، واستلب الرياسة ممن كان قد سبقه إليها، بظهور نعمة الله عليه، وسموها به على كل سام، فاستدعى ذلك منهم الحسد له، وألجأهم ذلك إلى البغي عليه، فدسوا إلى جعفر بن سليمان من قال له: إن مالكا يفتي الناس بأن أيمان البيعة لا تحل، ولا تلزمهم لمخالفتك، واستكراهك إياهم عليها (1)، وزعموا أنه يفتي بذلك أهل المدينة أجمعين، لحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه " (2) فعظم ذلك على جعفر واشتد عليه وخاف أن ينحل عليه ما أبرم من بيعة أهل المدينة، وهم أن يبدر فيه بما عافاه الله منه، وأنعم على المسلمين ببقائه. فقيل له: لا تبدر فيه ببادرة فإنه من أكرم الناس على أمير المؤمنين، وآثرهم عنده، ولا بأس عليك منه، فلا تحدث شيئا إلا بأمر أمير المؤمنين، أو يستحق ذلك عندنا بأمر لا يخفى على أهل المدينة. فدس إليه جعفر بن سليمان بعض من لم يكن مالك يخشى أن يؤتى من قبله، ومن مأمنه يؤتى الحذر (3)، فسأله عن الأيمان في البيعة فأفتاه مالك بذلك طمأنينة إليه، وحسبة فيه. فلم يشعر مالك إلا ورسول جعفر بن سليمان يأتيه، فأتوا به إليه منتهك الحرية، مزال الهبية، فأمر به فضرب سبعين سوطا، فلما سكن الهيج بالمدينة، وتمت له البيعة، بلغ بمالك ألم الضرب حتى أضجعه.
إنكار أبي جعفر المنصور لضرب مالك قال: وذكروا أنه لما بلغ أبا جعفر ضرب مالك بن أنس، وما أنزل به جعفر بن سليمان أعظم ذلك إعظاما شديدا، وأنكره ولم يرضه، وكتب بعزل