قال: فأتي به. قال له: انطلق بهذا الكتاب إلى هذا الطاغية، الذي قد فتن وفتن، فاردعه عن قبيح ما دخل فيه، وعظيم ما أصر عليه من حق الله، وحرمة ما انتهك عدو الله، إلى ما في ذلك من سفك الدماء، وإباحة الحريم، وإنفاق الأموال، فإني لولا معرفتي بأنك قد حويت علما، وأصبت فقها، أخاف أن يكون عليك لا لك، لعهدت لك به عهدا تقفل به، ولكن انطلق مرتك هذه قبل الكتاب إليه، واحمله على البريد. فخرج سعيد به متوجها، حتى انتهى إليه.
فلما قرأ عبد الرحمن الكتاب، تبينت رعشته جزعا منه، وهيبة له، وسمع بذلك من كان يتابعه، وهوى كل ذي هوى، وضم سعيد بن جبير فلم يظهره للناس، وكتم الكتاب وجعل يستخلي بابن جبير في الليل فيسمر معه، ويسأله عبد الرحمن الدخول معه فيما رأى هو من خلع الحجاج، فأبى سعيد ذلك عليه، فمكث بذلك شهرا كريتا (1). فأسعفه سعيد بن جبير بطلبته، وسارع معه في رغبته، وخلعان طاعة الحجاج، ثم إن عبد الرحمن، تجهز من سجستان مقبلا، يقود من يقوده من أهل هواه وأهل رأيه، وخرج الحجاج إليه بمن معه من أجناده من أهل الشام، وبمن معه يومئذ من أهل الطاعة من أهل العراق، حتى لقيه بدير من أديار الأهواز، يسمى بنيسابور، فناصبه للقتال ستة أشهر كريتة (2)، لا له ولا عليه، حتى إذا كان في جوف ليلة من الليالي، خلا الحجاج بعنبسة بن سعيد بن العاص ويزيد بن أبي مسلم، وعلي بن منقذ مولاه، وبعبد الرحمن بن زياد مولاه، وكان يزيد بن أبي مسلم حاجبه على ما وراء بابه وأما يحيى فوكله بالقيام خلف ظهره، إذا هو نسي أو غفل نخسه بمنخسه، ثم قال: اذكر الله يا حجاج، فيذكر ما بدا له أن يذكر. وأما عبد الرحمن بن زياد، فكان ذا رأي ومشورة وأدب وفقه ونصيحة. أما عنبسة، فكان بعيد الهمة، طويل اللسان، بديه الجواب، فاصل الخطاب، موفق الرأي، فاستشارهم لما طال به وبعبد الرحمن القتال، لا يظفر واحد منهما بصاحبه - ومع عبد الرحمن سعيد بن جبير والشعبي (3)، فكان هذا فقيه أهل الكوفة، وهذا فقيه أهل البصرة - في أن يبيته، فكره ذلك مواليه،