إليك، وأستعين بالله عليك، وبما صار معي من كريم جسدك، وطيب جوارحك، ليحيى عبدك. فأخذ هارون ذلك فلثمه، ثم استعبر وبكى بكاء شديدا، وبكى أهل المجلس، ومر البشير إلى يحيى، وهو لا يظن إلا أن البكاء رحمة له، ورجوع عنه. فلما أفاق رمى جميع ذلك في الحق، وقال لها: لحسن ما حفظت الوديعة: قالت: وأهل للمكافأة أنت يا أمير المؤمنين. فسكت: وطبع الحق، ودفعه إليها، وقال: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "، قالت: يا أمير المؤمنين وقال عز وجل: " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "، وقال تعالى: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم "، فقال لها: وما ذاك يا أم الرشيد؟ قالت: ما أقسمت لي به يا أمير المؤمنين، أن لا يحجبك عني حاجب. فقال لها:
يا أم الرشيد، أحب أن تشتريه محكمة فيه. قالت: أنصفت يا أمير المؤمنين، وقد فعلت غير مستقيلة لك، ولا راجعة عنك. قال: بكم؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك: قال:
يا أم الرشيد، أمالي عليك من الحق مثل الذي لهم؟ قالت: بلى يا أمير المؤمنين إنك لأعز علي، وهم أحب إلي. قال: إذا فتحكمي في ثمنه بغيرهم. قالت: بلى وقد وهبتكه وجعلتك في حل منه، وقامت عنه، فبقي الرشيد مبهوتا، ما يحير لفظة. قال سهل: وخرجت عنه فلم تعد إليه، ولا والله إن رأيت عيني لعينها عبرة، ولا سمعت أذني لنعيها أنه. قال سهل: وكان الأمين رضيع يحيى بن جعفر، فمت إليه يحيى بن خالد بذلك، فوعده استيهاب أمه إياهم، ثم شغله اللهو عنهم، فكتب إليه يحيى، وقيل: إنها لسليمان الأعمى أخي مسلم بن الوليد:
يا ملاذي وعصمتي وعمادي * ومجيري من الخطوب الشداد بك قام الرجاء في كل قلب * زاد فيه البلاء كل مزاد إنما أنت نعمة أعقبتها * أنعم نفعها لكل العباد وعد مولاك أتممتة فأبهى الدر * ما زين حسنه بانعقاد ما أظلت سحائب اليأس إلا * خلت في كشفها عليك اعتمادي إن تراخت يداك عني فواقا * أكلتني الأيام أكل الجراد وبعث بها إليه، فبعثها الأمين إلى أمه زبيدة، فأعطها الرشيد وهو في موضع لذاته، وفي إقبال من أريحيته، وتهيأت للاستشفاع لهم، وهيأت جواريها ومغنياتها، وأمرتهن بالقيام إليه معها. فلما فرغ الرشيد من قراءتها لم ينقض حبوته (1) حتى وقع في أسفلها: عظيم ذنبك أمات