وأخذت برضاعي لك الأمان من دهري. فقال لها: وما ذلك يا أم الرشيد؟ قال سهل:
فآيسني من رأفته بتركه كنيتها آخرا ما كان أطمعني منه في بره بها أو لا. قالت له: ظئرك يحيى وأبوك بعد أبيك: ولا أرشحه بأكثر مما عرفه به أمير المؤمنين من نصيحته له، وإشفاقه، عليه، وتعرضه للحتف في شأن موسى أخيه. فقال: يا أم الرشيد، قدر سبق، وقضاء حم، وغضب من الله نزل. قالت: يا أمير المؤمنين: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب:
فقال الرشيد: صدقت، فهذا مما لا يمحوه الله. فقالت: الغيب محجوب عن النبيين، فكيف عنك يا أمير المؤمنين؟ فأطرق الرشيد يسيرا ثم قال:
وإذا المنية أنشبت أظفارها * ألفيت كل تميمة لا تنفع فقالت بغير روية: ما أنا ليحيى بتميمة يا أمير المؤمنين. وقد قيل:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد * ذخرا يكون كصالح الأعمال هذا بعد قول الله " والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين " فأطرق هارون قليلا ثم قال:
إذا انصرفت نفسي عن الشئ لم تكد * إليه بوجه آخر الدهر تقبل فقالت: يا أمير المؤمنين وهو يقول:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني * يمينك فانظر أي كف تبدل قال الرشيد: رضيت. فقالت: يا أمير المؤمنين، فهبه لله تعالى، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ترك شيئا لله لم يوجده الله، فأكب الرشيد مليا، ثم رفع رأسه وهو يقول:
لله الأمر من قبل ومن بعد. قالت: يا أمير المؤمنين: " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ". واذكر يا أمير المؤمنين أليتك (1): ما استشفعت إلا شفعتني. قال: واذكري يا أم الرشيد أليتك: أن لا شفعت لمقترف ذنبا. قال سهل ابن هارون: فلما رأته صرح بمنعها، ولاذ من مطلبها، أخرجت له حقا من زمردة خضراء، فوضعته بين يديه، فقال الرشيد: ما هذا؟ ففتحت عنه قفلا من ذهب، فأخرجت منه خفضه (2) وذوائبه وثناياه، قد غمست جميع ذلك في المسك. فقالت: يا أمير المؤمنين: أستشفع