ذكر ما نال مالك بن أنس من جعفر بن سليمان قال: وذكروا أنه هاج بالمدينة هيج في ابتداء أيام أبي جعفر، فبعث إليها أبو جعفر ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس، ليسكن هيجها وفتنها، ويجدد بيعة أهلها فقدمها وهو يتوقد نارا على أهل الخلاف لهم، فأظهر الغلظة والشدة، وسطا (1) بكل من ألحد في سلطانهم، وأشار إلى المنازعة لهم، وأخذ الناس بالبيعة، وكان مالك بن أنس رحمه الله لم يزل صغيرا وكبيرا محسدا (2)، وكذلك كل من عظمت نعمة الله عليه في علمه أو عمله، أو فهمه أو ورعه، فكيف بمن جمع الله ذلك فيه، ولم يزل منذ نشأ كذلك قد منحه الله تعالى العلم والعمل، والفهم واللب والنبل، ووصل له ذلك بالدين والفضل، عرف منه ذلك صغيرا، وظهر فيه كبيرا، واستلب الرياسة ممن كان قد سبقه إليها، بظهور نعمة الله عليه، وسموها به على كل سام، فاستدعى ذلك منهم الحسد له، وألجأهم ذلك إلى البغي عليه، فدسوا إلى جعفر بن سليمان من قال له: إن مالكا يفتي الناس بأن أيمان البيعة لا تحل، ولا تلزمهم لمخالفتك، واستكراهك إياهم عليها، وزعموا أنه يفتي بذلك أهل المدينة أجمعين، لحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه " فعظم ذلك على جعفر واشتد عليه وخاف أن ينحل عليه ما أبرم من بيعة أهل المدينة، وهم أن يبدر (3) فيه بما عافاه الله منه، وأنعم على المسلمين ببقائه. فقيل له: لا تبدر فيه ببادرة، فإنه من أكرم الناس على أمير المؤمنين، وآثرهم عنده، ولا بأس عليك منه، فلا تحدث شيئا إلا بأمر أمير المؤمنين، أو يستحق ذلك عندنا بأمر لا يخفى على أهل المدينة. فدس إليه جعفر بن سليمان بعض من لم يكن مالك يخشى أن يؤتى من قبله، ومن مأمنه يؤتي الحذر (4)، فسأله عن الأيمان في البيعة فأفتاه مالك بذلك طمأنينة إليه، وحسبة فيه. فلم يشعر مالك إلا ورسول جعفر بن سليمان يأتيه، فأتوا به إليه منتهك الحرية، مزال الهيبة (5)، فأمر به فضرب سبعين سوطا: فلما سكن الهيج بالمدينة، وتمت له البيعة، بلغ بمالك ألم الضرب حتى أضجعه.
(١٤٨)