وشباب لا يشوبه هرم، وقرار لا يخالطه هم. قال الملك: سأنظر إلى نفسي في الاختيار لها مما ذكرت لي، فإذا كان وقت السحر، فاقرع علي بابي لتعرف رأيي، فإني مختار إحدى المنزلتين، فإن أقمت في ملكي، واخترت ما أنا فيه، كنت وزيرا لا تعصى، وإن خلوت كنت رفيقا لا تجفى. فلما كان السحر. قرع عليه بابه، فإذا هو قد وضع تاجه، ولبس أطماره (1)، فلحقا بالجبل، فلم يزالا يعبدان الله فيه، حتى بلغ أجلهما، وانقضى عمرهما.
فبكى هشام حتى بل لحيته، ثم نكس رأس طويلا، ثم أمر ينزع أبنيته وانتقاله، وأقبلت العامة من الموالي على ابن الأهتم. فقالوا له: ما أردت لأمير المؤمنين، أفسدت عليه لذته، ونغصت عليه شهوته، وقد حرمتنا ما أملنا فيه. قال: إليكم عني، فإني عاهدت الله ربي، أني لا أخلو بملك إلا ذكرته الله، ونبهته ورشدته. ثم رجع خالد إلى فسطاطه، كئيبا حزينا، متخوفا يظن أنه قد هلك، وكان للربيع صديقا. فبينما هو كذلك، إذ أتاه رسول الربيع.
فقال: يا صفوان، يقول لك أخوك الربيع: من كان في حاجة الله، كان الله في حاجته. إنك لما وليت من عند أمير المؤمنين جعل يقول: لله در ابن الأهتم، أي رجل دنيا وأخرى، مره يا ربيع، فليرجع حوائجه، وليغد إلينا بها نقضها له. فقال الربيع: فاغد علينا بحوائجك رحمك الله، واحمده على ما صنع، وأذهب من مخافتك. فغدا عليه بحوائجه فقضيت. وذكروا أنه لم يكن في بني أمية ملك أعظم من هشام، ولا أعظم قدرا، ولا أعلى صوتا منه، دانت له البلاد، وملك جميع العباد، وأديت له الجزية من جميع الجهات، من الروم والفرس والترك والإفرنج والزنج والسند والهند، وكان قريبا من الضعفاء، مهتما بإصلاح الأدواء، لم يجترئ أحد معه على ظلامة، ولم يسلك أحد معه إلا سبيل الاستقامة، وكان له موضع بالرصافة أفيح من الأرض، يبرز فيه، فتضرب له به السرادقات، فيكون فيه ستين ليلة، بارزا للناس، مباحا للخلق، لا يفنى أيامه تلك إلا برد برد المظالم، والأخذ على يد الظالم من جميع الناس، وأطراف البلاد، ويصل إلى مخاطبته بذلك الموضع، راعي السوام (2)، والأمة السوداء، فمن دونهما، قد وكل رجالا أدباء عقلاء، بإدناء الضعفاء والنساء اليتامى منه، وأمرهم بإقصاء أهل القوة والكفاية عنه، حتى يأتي على آخر ما يكون من أمره، فيما يرفع إليه، لا ينضم إليه رجل يريد الوصول إليه، فينظروا أوضع منه إلا أدنوا الأوضع وأبعدوا الأرفع، حتى ينظر في شأنه، ويعرف أمره، وينفذ فيه ما أمر، ولا يرفع إليه ضعيف، ولا امرأة أمرا، وظلامة على غطريف (3) من الناس مرتفع القدر، ولا مستخدم به إلا أمر باقتضاء يمينه، وأغداه بمطلبه، لا يقبل لهم حجة، ولا يسمع لهم بينة، حتى لربما تمر به المرأة والرجل