سفينة عن أبيه عن سفينة قال: تعبد النبي صلى الله عليه وسلم واعتزل النساء حتى صار كالشن (1) البالي قبل موته بشهرين (2)
(١) الشن: القربة (النهاية): ١ / ٥٠٦.
(٢) هذا الحديث يتعارض مع ما أخرجه (البخاري) في النكاح باب (١) حديث رقم (٥٠٦٣)، و (مسلم) في النكاح باب (١) حديث رقم (١٤١٠)، و (النسائي) في النكاح باب (٥)، و (أبو داود) في النكاح باب (٣)، و (أحمد) ٣ / ٢٤١، حديث رقم (١٣١٢٢)، كلهم عن أنس: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم:
أما فإنا أصلي الليل أبدا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي مني) واللفظ للبخاري. وفي رواية ثابت عند (مسلم) (أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، ولا منافاة بينهما، فالرهط من ثلاثة إلى عشرة، والنفر من الثلاثة إلى تسعة، كل منهما اسم جمع لا واحد له من لفظه.
ووقع في مرسل سعيد بن السيب عن عبد الرزاق، أن الثلاثة المذكورين هم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعثمان بن مظعون. وعند ابن مردويه من من طريق الحسن العدني:
(كان علي في أناس ممن أرادوا أن يحرموا الشهوات، فنزلت الآية في المائدة).
ووقع في (أسباب النزول للواحدي) بغير إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ذكر الناس وخوفهم، فاجتمع عشرة من الصحابة وهم: أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسلمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن - في بيت عثمان بن مظعون، فاتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء ويحبوا مذاكيرهم) فإن كان هذا محفوظا، احتمل أن يكون الرهط الثلاثة هم الذين باشروا السؤال، فنسب ذلك إليهم بخصوصهم تارة، ونسب تارة للجميع لاشتراكهم في طلبة، ويؤيد أنهم كانوا أكثر من ثلاثة في الجملة، ما روى مسلم من طريق سعيد بن هشام أنه (قدم المدينة، فأراد أن يبيع عقاره فيجعله في سبيل الله، ويجاهد الروم حتى الموت، فلقي ناسا بالمدينة فنهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم، فلما حدثوه ذلك راجع امرأته وكان قد طلقها) يعني بسبب ذلك، لكن في عد عبد الله بن عمرو معهم نظر، لأن عثمان بن مظعونمات قبل أن يهاجر عبد الله فيما أحسب.
قوله: (إني لأخشاكم لله وأتقاكم له) فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم، من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فأعلمهم أنه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى الله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك لأن المشدد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد، فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما دوام عليه صاحبه، وقد أرشد إلى ذلك قوله في الحديث الآخر (المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى).
قوله: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) المراد بالسنة الطريقة، لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشئ الإعراض عنه إلى غيره. والمراد: من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريقة الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى، وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر ليقوى على الصوم، وينام ليقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل.
وقوله: (فليس مني) إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى (فليس مني) أي على طريقتي، ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فمعنى (فليس مني) ليس على ملتي، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر، وفي الحديث دلالة على فضل النكاح والترغيب فيه.
وفيه تتبع أحوال الأكابر للتأسي بأفعالهم وأنه إذا تعذرت معرفته من الرجال جاز استكشافه من النساء، وإن من عزم على عمل بر واحتاج إلى إظهاره حيث يأمن الرياء لم يكن ذلك ممنوعا.
وفيه تقديم الحمد والثناء على الله عند القاء مسائل العلم وبيان الأحكام للمكلفين، وإزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة والاستحباب.
وقال الطبري: فيه الراد على من منع استعمال الحلال من الأطعمة من الملابس وآثر غليظ الثياب وخشن الأكل. قال عياض: هذا مما اختلف فيه السلف، فمنهم من نحا إلى ما قال الطبري، ومنهم من عكس واحتج بقوله تعالى: (أذهبتم طيباتكم في الحياة الدنيا)، قال: والحق أن هذه الآية في الكفار، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأمرين، كما أن الأخذ بالتشديد في العبادة يفضي إلى الملل القاطع لأصلها وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلا، وترك التنفل يغضي إلى إيثار البطالة، وعدم النشاط إلى العبادة، وخير الأمور الوسط. (فتح الباري): ٩ / ١٢٩ - ١٣٢ و وقد أخرج الإمام أحمد في (المسند): ٤ / ٢٥، ٢٦، ٤١٤، حديث رقم (١٥٨٨٠) (من صام الدهر ضيقت عليه جهنم)، لأنه رغب رخصة الله تعالى ويسره، والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم، وكلاهما مستحق للعقوبة. (تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة) ص 135 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صائم الدهر: (ولا صام ولا أفطر). أخرجه مسلم في كتاب الصيام (13)، (14)، وأبو داود في كتاب الصوم (14)، (53)، والنسائي: (22) كتاب الصوم. قال يحيى: وهو حديث حسن.