قامت أول محاولة جدية لتخليص الأحاديث الصحيحة من مئات الألوف المزيفة.
تشوفت نفس أبى جعفر المنصور وكان امرءا تواقا إلى العلم، حفيا بالعلماء إلى كتاب ينفض الزيف ويبقى على الصحيح. تخير لهذه المهمة مالك ابن أنس الأصبحي، خيرة أهل الأرض في زمانه علما وتقى، وإمام دار الهجرة، وفقيه المسلمين، وصفوة صلحاء أهل اليمن، وبقية ملوك حمير. شمر لها الامام الجليل، وواصل الليل بالنهار. يجمع ويمحص، ويحقق ويدقق. حتى اجتمعت لديه مائة ألف حديث. انتخب منها عشرة آلاف ونبذ التسعين ألفا. حيث وضح لديه زيفها، وقام عنده الدليل على وضعها. ثم لم يزل خلال أربعين سنة دأبا يعرض ما انتخب على الكتاب والسنة، ويقيسها بالآثار والاخبار، حتى رجعت إلى خمسمائة حديث فقط، هي كل ما صح لديه من العشرة الآلاف المنتخبة، بل المائة ألف الأولى.
قال الهراس في تعليقه على الأصول: إن موطأه مالك كان اشتمل على تسعة آلاف حديث، ثم لم يزل ينتقى حتى رجع إلى سبعمائة.
وقال عتيق بن يعقوب: وضع مالك موطأه على نحو عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه كل سنة، ويسقط منه، حتى بقي هذا.
فهذا الذي صنعه مالك وجمعه خلال قرابة نصف قرن، يعد من خير القرون، بلغ زهاء خمسمائة فحسب، من مائة ألف. ويا لها من نسبة. ومالك بن أنس هو العلم ناهيك به فضل علم. وفضل تقى. وقرب عهد بعصر الرسالة، وزمن الصحابة، وموطن الدين، ومسرح الاسلام كانت هذه المحاولة. أول محاولة ناضجة، مستكملة لعناصر البقاء، لتصنيف الحديث النبوي وجمعه، وتمييز صحيحه من سقيمه.
أما محاولات ابن شهاب الزهري على رأس المائة الأولى، ثم ابن الماجشون