المسألة الأولى ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى أن المندوب مأمور به خلافا للكرخي وأبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة.
احتج المثبتون بأن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق، وليس ذلك لذات الفعل المندوب إليه وخصوص نفسه، وإلا كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه، ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث، وإلا كان كل حادث طاعة، ولا لكونه مرادا لله تعالى، وإلا كان كل مراد الوقوع طاعة، وليس كذلك ولا لكونه مثابا عليه، فإنه لا يخرج عن كونه طاعة، وإن لم يثب عليه، ولا لكونه موعودا بالثواب عليه، لأنه لو ورد فيه وعد لتحقق، لاستحالة الخلف في خبر الشارع، والثواب غير لازم له بالاجماع، والأصل عدم ما سوى ذلك. فتعين أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الامر، فإن امتثال الامر يسمى طاعة، ولهذا يقال: فلان مطاع الامر، ومنه قول الشاعر:
(ولو كنت ذا أمر مطاع لما بدا * توان من المأمور في كل أمركا) كيف وقد شاع وذاع إطلاق أهل الأدب قولهم بانقسام الامر إلى أمر إيجاب، وأمر ندب.
فإن قيل: أمكن أن يكون طاعة لكون مقتضى ومطلوبا ممن له الطلب والاقتضاء، ولا يلزم أن يكون ذلك لكونه مأمورا. ثم لو كان فعله طاعة لكونه مأمورا، لكان تركه معصية لكونه مأمورا. ولذلك يقال أمر فعصى.
ومنه قول الشاعر: (أمرتك أمرا جازما فعصيتني) وليس كذلك بالاجماع.
ويدل على أنه غير مأمور قوله عليه السلام: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلاة وقوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد: لو راجعتيه فقالت: بأمرك يا رسول الله فقال: لا، إنما أنا شافع نفى الامر في الصورتين مع أن الفعل فيهما مندوب. فدل على أن المندوب ليس مأمورا.