ثانيها: أن الطريقة الجارية بين أهل اللغة من قديم الزمان هو تحصيل الأوضاع بمجرد ملاحظة الاستعمالات، بل الظاهر أنه طريقة جارية في معرفة سائر اللغات إذا أريد معرفتها، إذ لم يعهد نص الواضع بوضعها لمعانيها ولا نقل ذلك عنه مسندا أو مرسلا، وإنما الغالب في الجميع معرفتها بملاحظة الاستعمالات كما يعرف ذلك من ملاحظة شواهدهم المذكورة في كتبهم، وقد حكى العلامة (رحمه الله) عن ابن عباس أنه قال: " ما كنت أعرف معنى الفاطر حتى اختصم إلي شخصان في بئر، فقال أحدهما: فطرها أبي " أي اخترعها، وحكي عن الأصمعي أنه قال:
" ما كنت أعرف الدهاق حتى سمعت رجلا يقول: اسقني دهاقا " أي ملآنا من غير فرق في ذلك عندهم بين ما إذا اتحد المعنى أو تعدد.
ثالثها: أنهم قد حكموا بأصالة الحقيقة في متحد المعنى وبنوا على كون المستعمل فيه هو المعنى الحقيقي حتى يتبين خلافه، فجعلوا الاستعمال شاهدا على الوضع، ومن البين أن ذلك جار في متعدد المعنى أيضا، إذ ليس استعمال اللفظ في المعاني المتعددة إلا كاستعماله في المعنى الواحد في إفادة الحقيقة، فإن كان دالا هناك كان دالا في ذلك أيضا وربما يؤيد ذلك أيضا بوجوه اخر:
منها: أنه لو كان حقيقة في أحد المعنيين مجازا في الآخر لبينه أهل اللغة، وعلمنا ذلك ضرورة من حال أهل اللسان، وملاحظة استعمالاتهم كما علمنا ذلك في إطلاق الأسد على الرجل الشجاع والحمار على البليد ونظائر ذلك، فلما جرت طريقتهم على إيضاح الحال في المجازات وتبيين الأمر فيها ولم يحصل ذلك في المقام دل ذلك على انتفاء التجوز فيه.
ومنها: أن تعدد المعنى أكثر في اللغة من اتحاده كما يظهر ذلك من ملاحظة الحال في الأسماء والأفعال والحروف، ويشهد به تتبع كتب اللغة والعربية فالظن يلحق الشئ بالأغلب.
ومنها: ملاحظة فوائد الاشتراك ومفاسد المجاز، فإن المشترك لا اضطراب فيه، نظرا إلى حصول الوضع فيه بالنسبة إلى كل من المعنيين، بخلاف المجاز.